رحل العام الثالث من عمر الثورة السورية حاملاً في طياته ذكرى اكبر المآسي التي حلّت بالشعب السوري في تاريخه المعاصر. والواقع ان سورية لن تقدر على تحمل استمرار هذا النمط التدميري إلى أفق غير محدد، فذلك سيعني انتهاء الوطن السوري عمراناً وسكاناً. ذلك ان معدلات النزوح والخراب التي سجّلها عام 2013 كانت اكثر من صادمة، واستمرارها على المعدلات السابقة ذاتها يعني أننا سنتكلم على بلد مختلف غير ذلك الذي يرتجيه السوريون. لا شك في أن تغيير هذا الواقع لن يجري في شكل اوتوماتيكي، كما أن لا نذر في الأفق تشي بإمكانية أن يحصل ذلك عبر مساعدة خارجية. فوقائع العام الفائت أثبتت في شكل قاطع انسحاب المجتمع الدولي من الأزمة السورية وتركها لأقدارها، علماً أن جزءاً من تلك البيئة الدولية يقف في الجبهة المقابلة للثورة بهدف إسقاطها وإعادة تسويق بشار الأسد رأس حربة في مواجهة قوى التطرف، على ما تفعل روسيا وإيران فيما تسكت الولاياتالمتحدة. يرتب هذا الأمر جهوداً مضاعفة على عقل الثورة وإدارتها، ويفرض عليهما تطوير أدواتهما بما يقلل الخسائر إلى حدودها الدنيا ويرفع منسوب الإنجازات. فقد انتهى الوقت الذي كان يتم فيه الاعتماد على زخم الحراك المدني بأدواته وطرقه المختلفة بعدما جرى تدمير البيئة الحاضنة للثورة وتشتيتها، بل تحويلها واحدة من المشكلات الكبرى التي تواجهها الثورة، فضلاً عن اختراق النظام تشكيلات الثورة ببعض القوى الغريبة عنها. فالمطلوب اليوم التعاطي مع المشهد الثوري بإدارة ابتكارية تختلف عن نمط الإدارة السابق الذي ارتكز على الانسيابية الثورية من دون أي تدخل في التفاصيل الكثيرة للحدث. فكيف وأنه لم يجر استثمار أي من إيجابيات تلك الحالة لتلميع صورة الثورة لدى الرأي العام العالمي الذي ثبت أنه دخل حالة استنكاف تجاه مأساة السوريين. لا تشكو الثورة من قلة المقاتلين، فلديها فائض من الشباب السوري الطامح الى الحرية ممن يعتقدون بأن الثورة عتبتهم إلى سورية الجديدة، ولا يرون سوى بانتصارها طريقاً للخلاص من نظام استبدادي ظلامي وإقصائي. وقد ثبت أنهم مخلصون لثورتهم، لكن هذا لا يكتمل بغير بلورة كل الموارد الموجودة والاستفادة من كامل الطاقة التشغيلية للثورة عبر اتباع طرق حديثة في الإدارة تعتمد: - وجود أنظمة إنذار وتحليل مبكرة تستفيد منها الثورة في توقع التطورات التي قد تحصل عسكرياً وسياسياً وديبلوماسياً. - وجود نظام يقدم المعلومات أولاً بأول إلى أصحاب القرار للتصدي للأخطار وصوغ استراتيجيات مناسبة، مع ما يتطلبه ذلك من تحليل للأوضاع القائمة والمحتملة. - تأسيس مجلس خبراء متعدد الاختصاصات مهمته بناء تقديرات واضحة وتقديم الاقتراحات السياسية وصوغ الخيارات والبدائل وتصنيفها وتوضيح الفرص والأخطار التي تنطوي عليها. - إعادة صوغ الهيكلية الديبلوماسية والإعلامية للثورة وفق منهجية وتقنيات جديدة بعدما ثبتت لا جدوى الأساليب القديمة التي ارتكزت على مظلومية الشعب السوري من دون دمجها بهموم الرأي العام العالمي وهواجسه. والآلية المقترحة لا تحتاج الى جهود وموارد مستحيلة لأن الثورة تنطوي على طاقات هائلة علمية ومدربة، كما يمكن الاستفادة من وسائل الاتصال الاجتماعي التي يتقن أنصار الثورة التعامل معها. المسألة تحتاج فقط الى تنظيم هذه الإمكانيات في إطار خطة شاملة واعية بمتطلبات المرحلة وظروفها. نعم، الأمر يحتاج إلى وقت، لكن هل ثمة بدائل أفضل وأسرع لإنهاء مأساة شعبنا؟ لقد انتهى أوان الأحلام بتحقيق انتصار سريع وحاسم، وصار المطلوب العمل على صناعة آليات الانتصار الإستراتيجي الذي يمكن من خلاله وقف النزيف النازل بالسوريين واجتثاث الورم الذي يهدد مصيرهم والمتمثل بنظام الأسد. * كاتب سوري/فلسطيني.