في الوقت الذي كان المنتدى الدولي الثاني حول تحالف الحضارات، يواصل أعماله في اسطنبول، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما، يلقي كلمته أمام برلمان التركي في أنقرة، ويقول : «إن الولاياتالمتحدة ليست في حالة حرب مع الإسلام، بل إن شراكتنا مع العالم الإسلامي مهمة في واقع الأمر، في القضاء على إيديولوجية يرفضها الناس من جميع الأديان». ثم يستطرد قائلاً : «ولكنني أريد أيضاً أن أكون واضحاً، إن علاقة أميركا مع العالم الإسلامي لا يمكن أن تكون ولن تكون مستندة إلى معاداة القاعدة، بل بعيدة عن ذلك. نحن نسعى لتفاعل واسع النطاق مستند إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وسنزيل سوء التفاهم، وسنسعى إلى بناء أرضية مشتركة». والواقع أن (التفاعل الواسع النطاق المستند إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل)، هو المحتوى الفكري والمضمون الثقافي والترجمة العملية لتحالف الحضارات. لقد شاركت في منتدى اسطنبول حول تحالف الحضارات الذي عقد يومي 6 و7 نيسان (أبريل) الجاري، ممثلاً للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- التي تسعى من أجل تعزيز ثقافة الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات. والحق أنَّ الإنسانية لم تكن في مرحلة من مراحل التاريخ أشدَّ حاجةٍ إلى تعزيز التحالف بين الحضارات منها اليوم، بعد أن تصاعدت خلال الأعوام الثمانية الماضية، موجة السياسات المناهضة للحوار والداعية إلى استخدام القوة، والمتعارضة مع قيم التسامح والتفاهم والتعايش بين الأمم والشعوب والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات الإنسانية، ومع أصول التعاون بين الدول، على الرغم من مضي أربع وستين سنة على إنشاء منظمة الأممالمتحدة، ومضي إحدى وستين سنة على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إن الأزمات التي يمرّ بها عالمنا اليوم، والتي زاد من حدّتها الانهيار المالي الكبير في مطلع هذا العام، تهدّد الأمن والسلم الدوليين، وتقلق الضمير الإنساني، منشؤها تنكر قلة من البشر من ذوي النفوذ والقوة والهيمنة، لقيم الحوار والتحالف، واستهتارها بالقوانين الدولية، واستخفافها بالمبادئ الإنسانية السامية، وتحديها للشرعية الدولية بشكل سافر. وهو الأمر الذي زجَّ بالعالم في متاهات سحيقة، وتسبب في نشوء أزمات ونزاعات وحروب تعاني من ويلاتها شعوبٌ مضطهدة محرومة من حقها في الحياة الحرة الكريمة المستقرة، في كل من فلسطين وأفغانستان والصومال، وفي مناطق أخرى من العالم. إن التفكير السليم في قضايا العالم في هذه المرحلة، وفي كل مرحلة، يقودنا إلى القول بكل ثقة واطمئنان، إن المخرج من هذه الأزمات الطاحنة التي تسود في مناطق شتى من كوكبنا هذا، هو مواصلة دعم العمل الإنساني المشترك من أجل تعزيز الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، والاستمرار في بذل المساعي الحميدة، على شتى المستويات، لنشر ثقافة السلام والحوار والتحالف، وترسيخ قيم التسامح والتعايش بين البشر في كل مكان من العالم، في إطار من الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، وبميثاق الأممالمتحدة، وقبل هذا وذاك، التشبث بالقيم الدينية والأخلاقية السامية التي هي الرابط المتين للحضارات الإنسانية المتعاقبة. وبعد الدورة الأولى لمنتدى تحالف الحضارات، التي عقدت في مدريد في العام الماضي، والتي شاركت فيها، عرف العالم تحديات جديدة، وتعرض الشعب الفلسطيني لعدوان همجي في قطاع غزة، وتم انتخاب حكومة متطرفة في إسرائيل ترفض فكرة إقامة دولة فلسطينية. ومن المناسب أن أؤكد هنا أن العالم الإسلامي الذي كان رائداً في طرح فكرة الحوار بين الثقافات من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، يتطلع إلى منتدى التحالف بين الحضارات، مؤكداً إيمانه الراسخ بالقيم التي يدعو إليها، وذلك من منطلق الإحساس بالمسؤولية التاريخية إزاء دعم الحضارة الإنسانية المعاصرة وإغنائها برصيد من الحضارة الإسلامية التي ساهمت عبر العصور في إغناء الفكر والعمل الحضاري، والتي من مبادئها التسامحُ واحترام الاختلاف في المعتقدات والمشارب الثقافية والخصوصيات الحضارية. ونحن في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو- نؤمن بأن التحالف بين الحضارات هو اختيار استراتيجي، وأن الحوار بين الثقافات هو السبيل الذي يؤدي بالإنسانية إلى الاستقرار، ويرسخ قواعد الأمن والسلم الدوليين. وفي هذا الاتجاه نعمل بالتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، من أجل نشر ثقافة العدل والسلام، وفي سبيل تعزيز احترام التنوع الثقافي الخلاَّق، وتقوية التفاهم والتعايش بين الشعوب، من خلال تطوير مناهج التعليم والتربية على حقوق الإنسان وقيم المواطنة، وتربية الأجيال على قيم التسامح والاحترام المتبادل. ولكن ثمة معضلة آخذة في التفاقم تحول دون المضي في هذا الاتجاه، وتتمثل في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وانحياز الولاياتالمتحدة الأميركية إلى الدعم الكامل لإسرائيل وغض النظر عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية. ولقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز معبراً بعمق عن هذه المعاني في مقال له نشرته مجلة «فيرست» المتخصصة البريطانية بمناسبة قمة العشرين مع مقالات لزعماء الدول الأخرى، قال فيه: «دون سلام شامل وعادل في المنطقة، فإنه لا معنى للكلام عن استقرار المنطقة ونموها الاقتصادي، ولكي يتم تحقيق التنمية كذلك. وللوصول إلى السلام ذلك الهدف السامي قدمت الدول العربية مبادرة شاملة متوازنة، هي مبادرة السلام العربية، منذ عام 2002. وقد أضاع رفض إسرائيل للمبادرة فرصة كبرى لتحقيق سلام شامل وعادل في المنطقة. كما أننا نحث المجتمع الدولي على الاضطلاع بمسؤولياته إزاء تحقيق السلام الشامل والعادل الذي طال انتظاره. والاستفادة من المبادرة المفتوحة التي لن تظل مطروحة على الطاولة إلى الأبد». ولذلك فإن تحالف الحضارات لن يكون ذا موضوع، ما لم يتحرك المجتمع الدولي ليتحمل مسؤوليته إزاء الوضع المتردي في الأراضي الفلسطينية. وكذلك لن يكون للكلام الذي نطق به الرئيس الأميركي أمام البرلمان التركي بخصوص علاقة الولاياتالمتحدة الأميركية بالعالم الإسلامي، أي مدلول واقعي، ما لم تقم الإدارة الأميركية في عهدها الجديد، بما يفرضه عليها الدستور الأميركي وميثاق الأممالمتحدة ومبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، من واجبات تجاه إحلال الأمن والسلام في الشرق الأوسط، حتى تتمهد السبل إلى تحالف حقيقي للحضارات. لقد أتيحت لي فرصة الحديث مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلال حفل الاستقبال الذي أقامه رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان مساء يوم الإثنين السادس من نيسان، بحضور الرئيس التركي عبد الله غول، ورئيس الحكومة الإسبانية خوسي لويس ثباتيرو، وعدد من كبار المسؤولين الدوليين. واغتنمت تلك الفرصة لأشكر الرئيس أوباما على توجهه الإيجابي، وأكدتُ له أننا في إطار العمل الإسلامي المشترك، حريصون على نشر ثقافة الاحترام المتبادل وتعزيز قيم العدل والسلام والحوار. ولذلك فنحن نؤيد توجهاته العادلة، ونرجو له التوفيق في مهامه لإعادة أميركا إلى المكانة اللائقة بها كأعظم قوة في العالم. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو.