ظلت تقاوم الموت حتى الرمق الأخير، هي التي عشقت الحياة حتى لحظتها الأخيرة. في السابعة والثمانين من عمرها رحلت الفنانة الكبيرة صباح شبه وحيدة في غرفة فندق بعد هجرة ابنها الدكتور صباح وابتعاد ابنتها هويدا. الفنانة التي ملأت لبنان ومصر، وطنها الثاني، والعالم العربي غناء وبهجة وإطلالات فنية، مسرحية وسينمائية، قضت أعوامها الأخيرة نزيلة فندق بعدما اضطرت إلى بيع منزلها وأملاكها دافعة ضريبة سخائها الكبير مع الجميع، أقارب وأصدقاء. غير أن هذه الفنانة المشغوفة بحب الحياة والدلال والأناقة والمغامرات الغرامية لم تيأس يوماً ولم تندم، بل بقيت على مرحها وغنجها، وظلت ابتسامتها المألوفة تملأ شفتيها. كانت حياة صباح الشخصية والفنية صاخبة جدا. اسمها الحقيقي جانيت الفغالي (مواليد 1927- بدادون) ولقبها صباح اطلق عليها في القاهرة عندما لبّت دعوة المنتجة المصرية آسيا داغر عام 1945 لتؤدي دوراً في أول فيلم لها في مصر وعنوانه «القلب له واحد»، وحينذاك تعرفت إلى الموسيقي الكبير رياض السنباطي الذي تولى تمرينها على الغناء مصرياً ولحن لها أغنية في الفيلم. أما في لبنان فأُلقيت على صباح ألقاب كثيرة: شحرورة الوادي، الصبوحة، الأميرة، الأسطورة... بدأت صباح الغناء باكراً في المدرسة متأثرة بجو الزجل الذي كان عمها أسعد الفغالي واحداً من رواده. وعندما تخطت سنيّ المراهقة قررت أن تصبح مغنية وراحت مذّاك تبحث عن حياة جديدة بعيداً عن جو أسرتها الذي لم يكن سليماً تماماً. كان والدها يعاشر النسوة ويُدمن السهر والشرب مما دفع والدتها إلى خيانته، وكانت كلفة الخيانة هذه رصاصات أطلقها الابن أنطوان، شقيق صباح الأكبر، على أمه فأرداها في مضجعها. ولعل هذه الوقائع الأليمة هي التي دفعت صباح إلى خوض التحدي وتحقيق النجاح الكبير على رغم تبعثر حياتها وتفككها بين ثماني زيجات انتهت كلها بالفشل والطلاق. وكان آخر زواج لها من الشاب «فادي لبنان» إحدى مآسيها الأخيرة إفلاساً وقهراً وفضائح. أما زوجها السادس النائب اللبناني الراحل جو حمود فكان الأوفى لها وظل على صداقة معها، يرعاها مادياً ويساعدها في أزماتها، وما كان أكثرها. كانت صباح كما يقال «مزواجاً ومطلاقاً»، أول أزواجها نجيب شماس كان في عمر أبيها، تزوجت منه في الثامنة عشرة من عمرها هرباً من تسلط أبيها، ثم وقع الطلاق لتتزوج من الشيخ عبدالله المبارك الذي طلقته بعد شهر. ثم تزوجت من عازف الكمان المصري أنور منسي وطلقته فهو كان يقامر ويضربها. ومن بعده تزوجت من المذيع المصري المتدين أحمد فراج فراح يفرض عليها الاحتشام في اللبس والسلوك فطلقته. ثم تزوجت من الممثل المصري رشدي أباظة مدة شهرين ثم طلقت... وبعد طلاقها من جو حمود تزوجت من الفنان اللبناني وسيم طبارة قبل زواجها الكارثي الأخير من «فادي لبنان». عاشت صباح أكثر من حياة مثلما تزوجت أكثر من رجل ومثلما أحبت علانية وبلا تردد. وكفنانة عاشت أيضاً حياتين، حياتها اللبنانية وحياتها المصرية وأبدعت في غنائها باللهجتين وفي أدائها الأدوار في السينما المصرية واللبنانية. غير أنها كانت دوماً المطربة الكبيرة، صاحبة الصوت الفريد، القوي والعذب، الشديد الليونة والطواعية والمرونة، المشبع بالعُرب، والقادر على أداء ألوان متعددة من الطرب. صوت خارق قادر على بلوغ أعلى النوطات الموسيقية وأشدها انخفاضاً، بسهولة وارتياح كلي. كانت صباح قادرة على تطويع صوتها بحرية وكما تشاء ملبّية شروط الحالة الغنائية أو العاطفة أو الفكرة. صوتها بلدي بامتياز كانت تلونه بآهاتها فيسلس لها لا سيما في المواويل وفي الأغاني الفولكلورية والبلدية مثل أبو الزلف والميجانا والعتابا. كانت بارعة في مدّ الجمل الموسيقية إلى منتهاها من دون أن يتوقف نفسها أو يتعب. وكم كانت بارعة أيضاً في الدمج بين اللونين اللبناني والمصري، تلبي الملحنين المصريين بسهولة فيمنحونها أجمل الألحان التي تليق بصوتها. وأتاحت لها قدرات هذا الصوت أن تتعاون مع نحو 38 موسيقياً وملحناً، يختلف واحدهم عن الآخر، وصوتها كان قادراً على صهر هذا الاختلاف وتطويعه بقوته ورحابته. ومن الموسيقيين الكبار الذين تعاونت معهم: رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي، زكريا أحمد، الأخوان رحباني، فيلمون وهبي، فريد الأطرش، كمال الطويل، زكي ناصيف، وليد غلمية وغيرهم. وفي السينما والمسرح كانت لصباح إطلالات بديعة، كممثلة ومطربة، وكانت تؤدي أدوارها العاطفية غالباً بعفوية تامة وبراعة. ولها في السينما المصرية واللبنانية نحو ثمانين فيلماً وفي المسرح الغنائي نحو ثلاثين مسرحية. أما أغنياتها فتخطت الثلاثة آلاف. جانيت التي تحولت إلى «الشحرورة» «الصبوحة» في سطور