ساق واحدة فقط تبقت لياسمين ابنة نابلس، وساق واحدة فقط تبقت لمعتصم ابن غزة، هما إرث الانتفاضة الثانية في عمرهما القصير. كانت السنوات تركض متباهية لتكسو حياة الولدين، وكانت قنابلُ وحياةٌ قاسية تسابق العمر لتبتر الساقين. اليوم ياسمين ومعتصم في عمر اليفاعة والمراهقة يجري كل منهما بساق بقيت وأخرى اصطناعية استنبتت. بعد أسبوعين من الآن وأكثر قليلاً، في 17 كانون الثاني (يناير)، سيكون الاثنان قد شرعا تسلق جبل كليمنجارو، رابع قمم العالم ارتفاعاً. سيتعقبان هاري بطل قصة أرنست همنغواي «ثلوج كليمنجارو» الهائم على وجهه بلا بوصلة وقد فقد معنى الحياة، وصار بلا هدف، فيمسحان بأيديهما الصغيرة عرق جبينه ويهدهدان قلقه ويقدمان له على طبق من أمل حجراً مقدساً وغرفة ماء، وبوصلة حياة ومعنى. هناك فوق القمة الملتهبة من برودة «شيطان البرد» كما يعني اسم الجبل بالسواحلية سيُضرب موعد عشق بين جبل جرزيم وبحر غزة في رحلة السيقان النابتة دعما لحملات إغاثة الأطفال الفلسطينيين المصابين أو المرضى ممن لا يجدون من يساعدهم على استنهاض طرف فقدوه، أو إنهاء مرض استبد بهم. الخشية الوحيدة في الرحلة هي في إغواء السباحة في الغيم الأبيض الذي قد يستحوذ على معتصم ابن البحر وهاويه. من فوق القمة سيرى تحته البياض الكثيف فائضاً بالماء. ستختلف الأمكنة وزوايا النظر. سينظر إلى القمة تحته. سيقف وياسمين فوق الغيوم كإلهين إغريقيين يمتطيان المطر فيهطل أقداماً وسيقاناً وأيادي تنبض بالدم وتطير عائدة إلى أولاد وبنات في هذه الأرض تدمع عيونهم كل صباح لأنهم فقدوها. تتدرب ياسمين ويتدرب معتصم يومياً على المشي عدة كيلومترات وعلى ظهر كل واحد منهما حمل ثقيل يكافئ حمل التسلق استعداداً لرحلة العمر. قبل الوصول إلى القمة عليهما أن يمشيا ثمانين كيلومتراً، ثم يتسلقان الجبل المهيب وقمته ذات الكيلومترات الستة. أهم ما في التحدي هو الوصول إلى القمة وعدم التراجع من منتصف الطريق. سترافقهما أرواح وأدعية وقلوب. وسترافقهما روح طائرة لشاعر جاء معهم وقد انبثق من النقطة التي تتوسط جرزيم وبحر غزة تماماً. بنبوءة الشاعر المُدهشة سطر لهما قبل عشر سنوات، وقبل أن تُبتر سيقانهما، مستقبلهما الجبلي، وكتب عن الحنة التي ستتركها أقدامهما فوق القمة، ويتساقط فوقها الضوء كأنما هم «مرايا ملائكة». يومها كتب اليراع الرهيف إبراهيم نصر الله: «هناك الكثير ولكنهم ههنا لا يريدون غير الأقل/ جدةً قرب رأس الصغيرة تحكي حكاياتها/ لم تزر ذات يوم طبيباً ولم تتناول دواء/ تدور كزيتونة في السهول وقبل صياح الديوك تشق دروب الأمل/ وبصحبتها يضربون المثل/ هناك الكثير... ولكنهم ههنا لا يريدون غير الأقل: صعود الجبل». إبراهيم تصير روحه طفلة تطير يومياً ولا تكاد تصبر لتلتحق بالثلوج. يتدرب جسده يومياً على المشي الطويل وحمل أثقال التسلق على الظهر. سيرافق ياسمين ومعتصم ويشد لهما الأحصنة قادمة من زمن جميل لخيول بيضاء. في المساء يوقد لهما حطباً على بحيرة الغيم ويقرأ لهما شعراً وسيرة ملك في عكا كان يصنع قناديل للبحر. وفي النهار وهم يصعدون الأمل ويغرسون في حنايا الجبل غصن نعنع مع كل توكؤ على عصيهم، سيسرد عليهم كيف كان كليمنجارو مُلهماً لثوار حرب التحرير في تنزانيا ضد الاستعمار، وكيف قادهم غموضه وكبرياؤه الملتحف بالسماء إلى قيادة شعلة التحرر في القارة كلها. سيقول لهم: «ذات يوم كتب جوليوس نيريري أحد قادة حركة التحرير التنزانية والرئيس الأول لها بعد الاستقلال: سنوقد شمعة على قمة الجبل لتضيء خارج حدودنا وتعطي الشعوب الأمل في وضع يسوده اليأس، الحب في وضع تسوده الكراهية، والإحساس بالكرامة في وضع يسود فيه الإذلال». كم كانت كلماته أخاذة ذلك القائد وكم نفذت إلى قلب التاريخ والمستقبل. كليمنجارو ازداد غموضاً وبهاء وطقوسية. صار كالجد الخرافي لا للقارة الشابة وحدها، بل لكل يفاعة الشباب والانعتاق. تحول من جبل ثلجي يضيع فيه هاري وتلتبس الأمور على همنغواي عند التأمل فيه إلى نار مشتعلة بالدفء، إلى منارة وسط بحر الغيوم في السماء يستهدي بها المتسلقون نحو الأمل، ينفضون اليأس ويدوسونه بسيقانهم الاصطناعية، يشدهم إلى قمته وعد بالحب وموعد عشق يلتقي فيه الجبل والبحر، ومن هناك يرميان الكراهية في هاوية العدم. ذلك السر الدفين في هذا الشيء الغامض المُسمى «الأمل» هو ما دفع مئات المتطوعين لدعم ياسمين ومعتصم في رحلة السيقان النابتة نحو القمة. هو جزء من جهد ساقه الأمل والحب وعوض مئات من الأطفال مثلهما ممن فقدوا أجزاء عزيزة عليهم من أجسادهم، وهو الجهد الذي ينتزع إنحناءة تبجيل وإجلال. لكن ياسين ومعتصم سيكونان أول مراهقين يتسلقان الثلج هناك بسيقان اصطناعية. وسيكونان بطبيعة الحال أول فلسطينيين وعربيين يقومان بذلك. الجندي الدؤوب وراء الرحلة هي سوزان الهوبي عاشقة أخرى للأمل والجبال والقمم، وأول عربية وفلسطينية تتسلق قمة ايفريست. كأنما مسها سحر القمم بعد أن عرفت طعم الغيوم من فوق. صارت تشد الأحصنة وتنافس الشاعر في جلب خيول من بياض الثلج، تجيء بها لبنات وأولاد غرقوا في الدمع والبكاء على أجسادهم التي اقتنصت القنابل أجزاء منها، فتحملهم على ظهور خيول الثلج وتقودهم إلى قمة لا بكاء فيها. في الصور التي توزعها حملة «الصندوق الفلسطيني لإغاثة الطفل» حول مشروع التسلق نحو القمة هناك ست صور تأسر العيون. صورة لياسمين ومعتصم وهما صغيران وربما في السنة الأولى بعد فقدان ساقيهما، كل منهما على ساق واحدة، فيما الثانية مبتورة. وفي الصورة الثانية كل منهما يقف على ساقين وقفة طبيعية بعد تركيب السيقان الاصطناعية. في الصورة الخامسة والسادسة نفس اللقطة لكن للطفل السوري محمد جاموس ذي الخمسة عشر سنة، والذي فقد ساقه نتيجة إصابته بقذيفة مدفعية في قريته في جنوب سورية، والآن يعيش في أحد مخيمات اللاجئين في الأردن. كان من المفترض أن يكون محمد ثالث ياسمين ومعتصم لكن ظروفه العائلية دفعته للانسحاب. المُبهر في مجموعة الصور هو تلك الابتسامات البريئة الطافحة بالأمل. من أين يأتي هذا الشيء الخرافي الغامض المُسمى بالأمل لأطفال يقفون على ساق واحدة؟ هل كانت تخبرهم أرواح ذلك الأمل السابحة في الكون أن المستقبل يُعد لهم رحلة بديعة فوق الثلوج، يقطعونها بما تبقى لهم من سيقان، والآن يعدون الأيام شوقاً حتى تبدأ؟ أنا ذو الساقين الطبيعيتين أغبطكما على رحلتكما يا ياسمين ومعتصم. كم كنت أتمنى لو عرفت عنها في وقت مبكر كي التحق بكما. كم أتحسر من الآن على فقدان تلك اللحظة التي تصلان فيها إلى القمة، فيستقبلكما هناك همنغواي وهاري وقادة حروب التحرير ومكتشفو المعنى، ثم توقدون حطباً وتشعلون ناراً، ويقرأ عليكم إبراهيم نصرالله تراتيله، ثم تلقيان أنتما معاً عهد ووعد الأمل ضد اليأس وأشياعه وتهزمانه إلى الأبد. * كاتب وأكاديمي عربي Email: [email protected]