تميّز الصورة الذاتية الثقافية في الولاياتالمتحدة بين مفهومين للطبقة الاجتماعية: الأول يرى الطبقات في صيغتها التقليدية الأوروبية التي تقرن ما بينها وبين المكانة الاجتماعية، ويقرر بالتالي أن المجتمع الأميركي مجتمع من دون طبقات، والثاني ينظر إلى الطبقة من حيث مستوى الدخل والثروة، فيرضى بتقسيم ثلاثي، أي بطبقة ثرية وطبقة وسطى وثالثة فقيرة، إلا أنه يقصر كلاً من الطبقتين الثرية والفقيرة على قلة قليلة، ويجعل الطبقة الوسطى عموم المجتمع الأميركي. وفي حين أن ثمة إجماعاً على هذا التصور لدى كل التوجهات السياسية والفكرية، الاختلاف قائم في التأطير العقائدي لتداعيات هذا التقسيم. ولا شك في أن عهد الرئيس باراك أوباما، من حيث المواقف والسياسات التي اتخذها كما من حيث الوقائع والمجريات الخارجة عن إرادته، فرض على الخطاب السياسي تصعيداً وحدة في شأن هذه المفاهيم، يُتوقع توظيفه في المفاصل الانتخابية المقبلة. فالخطاب السياسي في الولاياتالمتحدة يتحدث دوماً بلسان الطبقة الوسطى، إلا أنه في الأوساط التقدمية يجعل التفاعل السياسي نزاعاً بين الأقلية الثرية الساعية إلى المزيد من الاستيلاء على موارد البلاد من خلال النفوذ الذي يشتريه المال، وإن على حساب اهتراء القليل من الدعم العام المتوافر للقفراء، وبين الطبقة الوسطى المطالبة بالإنصاف الاجتماعي، والراضية من حيث المبدأ والقناعة بأن تحصل الفئات المحرومة على ما ينتشلها من حرمانها. أما في الأوساط المحافظة، فالتفاعل السياسي هو بين الطبقة الوسطى الساعية بجهودها الذاتية إلى الترقي الاقتصادي، وبين منظومة سياسية تستنفد موارد هذه الطبقة بحجة دعم للمحتاجين قلّ منه ما يصل إلى من يحتاجه، بل حين يصل يُغرق المحتاج في فخّ من التبعية يضمن استمرار ولائه لهذه المنظومة الطفيلية. وإذا كانت هاتان القراءتان من الأوجه اللازمة للخطاب السياسي في الولاياتالمتحدة منذ عقود، فإنهما اكتسبتا في عهد أوباما حدة خاصة، لا سيما أن أوباما، ولو بقدر من التردد والمواربة، أتاح تصنيفه رئيساً «تقدمياً»، وهو يكون الأول بهذه الصفة منذ الرئيس الأسبق جيمي كارتر (1976-1980)، جاعلاً تعميم الضمان الصحي عنواناً لعهده، وذلك في زمن تعرضت فيه الولاياتالمتحدة لهزّات اقتصادية خطيرة طاولت القطاعات المصرفية والعقارية وأصابت معها سوق العمل. ولا شك أن أوباما وفريقه أمعنا في إدراج هذه الأزمات في نتائج سياسات خصومهم. فالعبارة الاعتذارية الأولى والتي لا تزال تردّد إلى اليوم هي أن إرث سياسات الرئيس السابق جورج دبليو بوش هو أصل المشكلة. فالإنفاق الحكومي الذي ضاعف المديونية العامة في ما يشكل سابقة تاريخية يعود، وفق المؤيدين لأوباما، إلى مخلفات عهد بوش، من دون اعتبار، من وجهة نظر خصومهم، إلى أن هذه «المخلفات» محكومة بعاملين: أولهما اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) وما تبعها من إجراءات عسكرية وأمنية وتنظيمية مكلفة حظيت بإجماع كل التوجهات السياسية في البلاد، وثانيهما «الفقاعة» العقارية العائدة إلى إصرار التقدميين على تخفيض شروط شراء المنازل للسماح لذوي الدخل المحدود بالحصول على عقارات سرعان ما تبين أن قدرتهم على تسديد أقساطها غير متوافرة، وهو إصرار تمت تلبيته تحت شعار الانصاف الاجتماعي في آخر عهد الرئيس بيل كلينتون، وليس في عهد جورج دبليو بوش. فسابقة فتح باب التملك أمام من لا قدرة له على الاحتفاظ بالملكية، هي وجهة نظر محافظة نموذج يتكرر لخطوات ظاهرها الحرص على العدالة وباطنها، في أحسن الأحوال، التهور في خطوات من دون اعتبار للعواقب. والنموذج الأبرز في هذا الصدد هو قانون توفير العناية الصحية الذي قرنه أوباما باسمه (أوباما كير). فما كان ابتداءً رغبة تقدمية في إنشاء نظام عناية صحية عامة، صدر بعد طول سجال على شكل إلزام لشركات التأمين الخاصة بتوفير خدماتها للشرائح التي كانت بلا تغطية صحية، في مقابل ما هو واقعاً ضريبة إضافية تفرض على عموم المواطنين عبر رفع رسوم التأمين. فمن يريد من ذوي التغطية السابقة تجنب الارتفاع في الرسوم سيشهد تخفيضاً في التغطية. وفي حين أن فعالية هذا النظام لا تزال موضوع سجال محتدم، فإن ثمة من يرى ان دخول الحكومة على خط تحديد شروط الضمان بهذا الشكل يتجاوز صلاحيتها وكفاءتها، ويشير إلى فشلها في احتضان موقع على الشبكة لإدارة العملية كدليل على ذلك. والخلاف الجوهري يتعدى دور الحكومة، بل يطاول تقييم موازنة الكلفة بالنتيجة، فخصوم القانون يرون أن الكلفة الباهظة لا على المواطن وحسب بل على الاقتصاد وعلى توسيع سلطة الحكومة، يتجاوز الفائدة المحدودة في توفير التأمين الصحي لقلة نسبية، فيما يعتبر مؤيدو هذا القانون أن مبدأ توفير العناية الصحية للجميع يدحض جميع الحجج. فما يعتبره الطرف الأول إنهاكاً للطبقة الوسطى وتعميقاً لنفوذ سلطة طفيلية تستفيد من حالة القلق الناتجة عن تباطؤ مرحلي في النمو الاقتصادي، يرى فيه الطرف الآخر ضماناً للطبقة الوسطى عينها إزاء تراجع مستمر لمقومات الرخاء. فالخلاف بين الجانبين ليس على قانون بل على تصور لطبيعة الدورة الاقتصادية ودور الحكومة فيها. وإذ يعتبر فريق أوباما ومؤيدوه من التقدميين أن تكثيف البرامج الداعمة هو خطوات احتزارية وإنصافية، يشتكي خصومهم من أن هذه الخطوات، إذ جعلت قرابة النصف من المواطنين الأميركيين معفيين من دفع ضرائب الدخل، ضمنت للفريق السياسي للرئيس قاعدة انتخابية ثابتة، وإن على حساب بث روح التبعية في مجتمع قائم على المبادرة والإقدام. وجميع التوجهات ترى في اضمحلال الطبقة الوسطى خطراً على المستقبل الأميركي. وإذ يبقى الخلاف على التشخيص حول مسؤولية الاضمحلال عاملاً فيه من جهة، فإنه يبقى كذلك ضامناً لعدم التفرد بحلول قد تؤدي، بصرف النظر عن النوايا، إلى استتباب هذا الاضمحلال ومضاعفته.