راجت مقولة في أعقاب قصف النظام السوري الغوطة الشرقية في ريف دمشق بأسلحة كيماوية قبل أشهر، ونجاته من العقاب الدولي، مؤداها أن النظام نجح في رفع سقف عدد القتلى في اليوم الواحد إلى حدود الألف، وأخذ تفويضاً دولياً بذلك، شرط أن يكون القتل «غير كيماوي». وما جرى قبل أيام في حلب يُثبت صحة هذه المقولة، ذاك أن أكثر من مئتي قتيل سقطوا نتيجة قصف المدينة بالبراميل المتفجرة لم يُحركوا أحداًَ. إنها إحدى قصص نجاح نظام «البعث». استدراج الصمت في أعقاب المجزرة. عبقرية القاتل هنا لا تكمن في فن القتل، بل في ابتذال القتل، وفي جعله عادياً وفي استنفاد صوره في أقل من لحظات سريعة. أن تقتل «داعش» رجلاً في حلب حدث أقوى من أن يقتل النظام مئتين في المدينة. دعك من الإجرام الواحد الذي يقف خلف الواقعتين، فهذا لا يُلغي أن عبقرية مجرمة ومبدعة جعلت من هذا أمراً ممكناً. عبقرية لا تستدرج الإعجاب، إنما الذهول والخوف، وهي إذ تُحسن توظيف القتل في الإمعان في الصمت، تُضاعف كل يوم عنفها مدركة أن حدود المعادلة صارت مفتوحة. والحال أن ابتذال القتل لا يجعل منه فعلاً عادياً. النظام نفسه لا يريد من القتل أن يُصبح فعلاً عادياً، فهو يُدرك أن ذلك يُفقده قوة الإبداع وسلطة الموت. يريد أن يُمارسه بصفته أفقاً وعلاقة تربطه برعاياه ومواطنيه. هذا دأبه أصلاً منذ أكثر من أربعين عاماً. قد تُحدث مقولة إن النظام أبدع في القتل استياء وذهولاً، وقد تُخلّف شعوراً بأننا نعترف له بقوته وبقدرته، وهو أيضاً يطلب اعترافنا بشرعيته مستعيناً بهذه المقولة. ولكن، لا بد لنا من أن نعترف له. فهو اخترع القتل الجزئي والنخبوي ليكتسب شرعية القتل الجماعي. إعدامات «داعش» تُجيز إعدامات جماعية، وحرق كنيسة يجيز حرق المساجد كلها، وخطف رزان زيتونة أنسَانا سجوناً تمتد من صيدنايا إلى تدمر. لنكاشف أنفسنا بهذه الحقيقة. فعندما أقدم «لواء الإسلام» على خطف ناشطي مركز مراقبة الانتهاكات، أصابنا ضعف في انشغالنا بسجن صيدنايا وبفرع فلسطين وغيرهما من مراكز الاعتقال. هذا إنجاز جوهري للنظام. وعندما تقدمت «كتائب إسلامية» نحو سجن حلب صار همّ الناشطين سلامة المساجين لا ظلامة سَجنهم. إذاً، اخترع النظام الموت الجزئي في مواجهة الموت العام. الصورة المجتزأة لوجه القتيل في مواجهة صورة الموت الجماعي. موت الفرد الواحد أقوى إذا ما كان صورة. هو موت أقرب إلينا وأكثر فعالية وقدرة على أن يتفشى في المخيلة وفي الضمير. وبينما دفعنا النظام إلى ذلك حوّل موتنا إلى رقم عادي ومبتذل. مئتا قتيل في حلب. إنه مجرد رقم، بينما تلك الراهبة التي خطفتها «داعش» وربما قتلتها أو ستقتلها، فهي وجه واسم وسبحة وإيمان، وهي مظلومة حقاً، انتهك حقها في أن تعيش وأن تُصلي وان تكون. ولكن، ماذا فعلنا نحن لقتلانا؟ وماذا عن نجاح النظام في تصوير «قتيله» وفشلنا في ضخ حياة في رقم قتلانا؟ ناهيك عن أن الراهبة قتيلتنا وليست قتيلته، لكننا مرشحون أيضاً لمصير مشابه لمصيره، أي أن يسرق النظام ظلامتنا، وأن تُقدمنا «داعش» هدية له. أليس هذا تماماً ما جرى للأب باولو، فقد سرق النظام ظلامته بعد أن كان طرده من كنيسته في القلمون. يجب الكف عن ندب الحظ واتهام العالم بانعدام الضمير. هذا لا يُفيد بشيء الآن. ليس العالم وحده من أنتج «داعش»، نحن أيضاً لم نملك المناعة الكافية، ولم نُصدق حين قال النظام إن في جعبته أسلحة لا تنتهي. صحيح أن العالم لم يعد مكترثاً لعدد قتلانا، وأن السياسة عمل لا أخلاقي في كثير من الأحيان، لكن جهلنا بذلك يُشبه جهلنا بقوة وجه القتيل في مقابل رتابة الرقم. من غير العادل فعلاً أن ينتصر قتيل على آلاف القتلى، ولكن من الجهل أيضاً أن نهدي للنظام قتيلنا. أن نشك للحظة في أن «داعش» و «النصرة» وألوية الأمراء الإسلاميين المفرج عنهم من سجن النظام لكي يدخلوا في بطوننا، يمكن أن يُقاتلوا إلى جانبنا. ومن غير العادل أيضاً أن تذوي قضية على هذا المقدار من العدالة ومن السطوع، وأن يكون القاتل سافراً إلى هذا الحد. أن يقول جهاراً نهاراً: هذا أنا، وهذا ما أفعله وما سأفعله، وأن يكون الجواب نصيحة بأن نذهب إلى «جنيف - 2»، ولا خيار أمامنا سوى أن نذهب. فمن غير السياسة أن نقول إننا لن نذهب. المشهد مقفل فعلاً. الصواب هو أن يذهب الجميع للقاء القاتل هناك في جنيف. هذه حقيقة لا راد لها. ولن يكون ما يرتكبه النظام ذخيرة له على تلك الطاولة، لا بل إنه يلقي بالبراميل مستبقاً الطاولة بهدف إطاحتها. لكن ذلك لا يلغي أننا مدعوون إلى وليمة واحدة معه. نجح النظام في رفع سقف عدد القتلى. في حلب قتل قبل أيام أكثر من مئتين في ليلة واحدة. الاستنكار جاء باهتاً، هزيلاً وروتينياً، وما ترتب على ليلة البراميل لم يعدُ كونه تثاؤب ضمير. وثمة من يدعونا للإعجاب بذلك، والاقتناع بأن النظام باقٍ، لأن العالم قبل به على رغم ذلك. لا يمكن أن يصح ذلك. لا سابقة له في التاريخ الحديث. أن يُقنع نظامٌ العالم بأنه ضرورة، بدليل تمكنه من قتل كل هؤلاء، فهذا يدفع إلى الشك بكل شيء. صحيح أنه جهّز لهذه المهمة فريقاً إعلامياً هائلاً، واستثمر في ميل العالم لعدم غفران أخطائنا، وفي معرفته القوية بمكامن ضعفنا وخوائنا، ولكن يبقى أن من المستحيل أن يستقيم القتل في ضمير البشرية. لا خيار لنا سوى أن نذهب الى «جنيف - 2»، وأن لا نستجيب لنداء البراميل. من القسوة أن نُقر بذلك، ولكن من السياسة أيضاً أن نذهب.