حمل العام 2013 تطورات وتناقضات طبعت آثاراً قوية على المشهد الروسي، وحولته عاماً حاسماً أو فاصلاً بين مرحلتين، كما يحلو لأوساط مقربة من الكرملين أن تؤكد. وعام «الانتصارات» السياسية على الصعيد الخارجي، الذي اعتبر البعض أنه شهد تسارع وتيرة استعادة روسيا مواقعها على الساحة العالمية، وبدء تبلور النظام الدولي الجديد القائم على التعددية القطبية، ما انعكست مجرياته داخلياً بشكل حمل مزيجاً متناقضاً من الانجازات والخيبات. لكنه في كل الاحوال، فتح على عهد جديد ربما لم تعرف بعد ملامحه النهائية، لكن الاكيد أن ثمة مساعي نشطة من الكرملين لاعتباره بوابة الدخول إلى روسيا الجديدة التي بدأت تتلمس طريقها في العالم وتضع تعريفاً خاصاً بها يمكن اعتباره الهوية التي يريدها الكرملين لروسيا المعاصرة. هذا ما تضمنته الرسالة السنوية التي ألقاها الرئيس فلاديمير بوتين في 12 كانون الأول (ديسمبر) امام الهيئة الاشتراعية (مجلسي الدوما والشيوخ)، إذ حدد بوتين للمرة الأولى، هوية روسيا الجديدة ك «قوة محافظة»، مع ما يتبع ذلك من طريقة تعاملها مع الاحداث الدولية والاقليمية خلال المرحلة المقبلة. هكذا تم اعلان الأيديولوجية الرسمية للدولة الروسية: «بلد محافظ يعمل على الدفاع عن القيم الاخلاقية للمجتمع ويستند إلى القوانين الدولية والوطنية التي تصونها». وكانت روسيا شهدت نقاشات كثيرة خلال العقدين الماضيين حول مسألة الهوية، في مرحلة ما بعد الايديولوجيا السوفياتية. وحسم العام 2013، الجدل والسجالات الساخنة لغير مصلحة التيار الليبرالي-الديموقراطي الذي ظل يدافع لسنوات عن ضرورة انتماء روسيا إلى محيطها الأوروبي-الغربي ويرفع الشعارات ذاتها التي يرفعها «العالم الحر». وهو امر شهدت عليه سلسلة من الندوات والمؤتمرات التي عقدت خلال هذا العام، على مستوى خبراء بارزين توصلوا إلى توصيات أتت قرارات الكرملين مخالفة لغالبيتها. ولا شك في أن هذا الاختيار يعد تطوراً «طبيعياً» في سياق المواقف التي اتخذتها روسيا خلال السنوات الأخيرة في التعامل مع الملفات الشائكة التي واجهتها داخلياً وخارجياً. فالخط «المحافظ» للبلد، تبنى نصوص القوانين الوطنية والدولية في ما يتعلق بمسألتي «السيادة» و«رفض التدخل الخارجي في شؤون الدول» وصولاً إلى قضايا مثل «مشكلة الأقليات القومية» و «المثليين» ومحاربة تصدير «الثقافات الغريبة»، إلى آخر اللائحة التي تطول. ورأى معارضون أن الاعلان عن الامر، في رسالة الرئيس السنوية التي تضع عادة أطراً قصيرة وأخرى بعيدة المدى، لبلورة سياسات الدولة، سببه أن الكرملين بات يدرك أن المواقف التي يتبناها داخلياً وخارجياً أصبحت بحاجة إلى تغليفها بأيديولوجيا مناسبة. فمعارضة «الثورات الملونة» المدعومة من «قوى تهدف إلى زعزعة استقرار الدول وتدمير سيادتها وتصدير ثقافة غريبة إليها»، باتت توضع في اطارها «الصحيح» المنسجم مع «خط الدولة الروسية» التي واجهت بقوة تحركات المعارضة «الممولة من الخارج» وفرضت رقابة صارمة على وسائل الإعلام وكل أشكال التعبير عن رأي مخالف. وخارجياً، يبدو التوجه الجديد منطقياً ومنسجماً مع المواقف المعلنة لروسيا، ولا يبقى ما يبرر البحث عن «العنصر الأخلاقي الغائب» في مسألة دعم الديكتاتوريات العسكرية أو انتهاكات حقوق الانسان في مناطق قريبة مثل جمهوريات آسيا الوسطى أو بعيدة مثل سورية. لكن، هل يعني هذا أن الكرملين سيمضي إلى تشديد قبضته داخلياً ورفع هراوة قوته العسكرية خارجياً؟ بدا المشهد خلال 2013 وكأنه يسير على مسارين. فمن جهة، أتت قرارات العفو الرئاسي عن معارضين بارزين مثل رجل الاعمال السابق ميخائيل خودوركوفسكي وناشطات فرقة «يوسي راوت» ومعارضين قادوا حملات الاحتجاج في موسكو ومدن أخرى، وكان سبق ذلك السماح للسياسي المعارض اليكسي نافالني بخوض انتخابات محافظة موسكو منافساً لمرشح الكرملين، ومنح كل ذلك انطباعاً بأن الكرملين بات واثقاً من قوته وقدرته على السيطرة على مقاليد الامور، وأنه أخذ زمام المبادرة داخلياً وخارجياً وبات قادراً على القيام بمناورات تظهر «الوجه الانساني» وفق نص قرارات العفو، ولا يخسر معها شيئاً من سلطاته، خصوصاً أن «الانفراج على صعيد حقوق الانسان» وإغلاق ملفات ظلت خلافية مع الغرب عموماً والمؤسسات الحقوقية في شكل خاص تم توظيفهما لتحقيق فوائد كثيرة. في المقابل، فإن صدور قرارات العفو تزامن مع صدور أحكام قضائية جديدة ضد معارضين، ما يثير تساؤلات في هذا الشأن. تشديد القبضة على الإعلام كما أن العام 2013، شهد تطوراً لافتاً على مستوى التوجه الى تشديد القبضة على وسائل الإعلام الحكومية وتهيئتها لخوض مرحلة جديدة ستكون حافلة بمواجهات كما يبدو. في هذا السياق، أتت قرارات اعادة هيكلة وسائل الإعلام الحكومية وحل بعض ابرزها مثل وكالة أنباء «نوفوستي» وإذاعة «صوت روسيا» وتأسيس وكالة جديدة على انقاضهما، مهمتها الأساسية الترويج لسياسات روسيا والدفاع عن مصالحها. واعتبر خبراء أن الخطوة هدفت إلى ضرب نفوذ ممثلي التيار الليبرالي - الديموقراطي الذي يتمتع بوجود كبير داخل مؤسسات الإعلام الحكومية. وبعبارة أخرى، فإن التطور يدخل في سياق اعادة ترتيب البيت الداخلي في مواجهة «التحديات الجديدة» التي تواجهها روسيا على مختلف الصعد، وينسجم في الوقت ذاته مع قوة روسيا المتصاعدة عالمياً. على خلفية المشهد، أتى التلويح بالقوة العسكرية «المستعدة» للدفاع عن مصالح روسيا، ليؤكد أن البلاد تدخل العام الجديد وهي تواجه التحديات ذاتها التي ما زالت تؤرقها. فالحديث عن نشر صواريخ «اسكندر» في مقاطعة كاليننغراد، وتأكيد القيادة العسكرية أن الصواريخ نشرت بالفعل على حدود اوروبا، اوصلا النقاش حول موضوع «الدرع» الصاروخية الأميركية إلى ذروته، قبل ان يعلن بوتين أنه «لم يتخذ قراره النهائي بشأن نشر الصواريخ» مفسحاً في المجال أمام وضع الملف على طاولة المساومات. بالتوازي، أتى الإعلان عن «قدرات روسية على مواجهة طرازات جديدة من الانظمة الصاروخية المتطورة»، وعاد التلويح بالقدرات النووية التي «ستستخدم بالتأكيد إذا تعرضت روسيا لتهديد خارجي». الاستراتيجية الأمنية ويرى خبراء أن روسيا التي فرضت وجوداً قوياً على طاولات السياسة العالمية في العام 2013، ترى أن الفرصة سانحة، للتوصل إلى صفقات أو تفاهمات مرضية في مسائل الأمن الاستراتيجي. ويبدو تلويح بوتين بأن بلاده «لن تسمح لأحد بتحقيق تفوق عسكري عليها» تهديداً بإطلاق سباق تسلح جديد في حال لم تؤخذ وجهات نظر موسكو في الاعتبار عند وضع استراتيجيات الامن في اوروبا. ويكفي أن موسكو في مناقشاتها للموازنة للعام المقبل اكدت المضي بمشروع ضخم للإنفاق العسكري تصل قيمته إلى اكثر من 700 بليون دولار حتى العام 2020. على هذه الخلفيات، يمكن فهم الآلية التي انعكس فيها المشهد الروسي خلال العام 2013 على تطورات مهمة داخلياً وإقليمياً. ففي الجوار، فوجئت روسيا التي بدأت تضع سياسات طويلة الأمد لاستعادة دور مفقود، بمقدمات ثورة ملونة جديدة في اوكرانيا، وضعت ادارة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش مقدمات لها عبر قرار تجميد التوقيع على وثيقة الشراكة مع اوروبا، ما اثار احتجاجات واسعة ذكّرت بالوضع في العام 2004 عندما اندلعت «الثورة البرتقالية». ولم تسفر مناورات يانوكوفيتش بين موسكو وبروكسيل لتحقيق اكبر مقدار ممكن من العائدات عن تسوية للأزمة، ما اضطر موسكو إلى خوض مواجهة كانت تفضل تأجيلها لبعض الوقت. واستخدمت موسكو العجز الأوروبي عن تقديم الضمانات الكافية الى كييف لدعم توجه الاندماج مع اوروبا، للتقدم عبر منح قرض قيمته 15 بليون دولار لحليفها الاوكراني وخفض سعر الغاز الطبيعي بمعدل الثلث للبلد الجار، فيما تمثل الضغط الأوروبي في المقابل بظهور سياسيين وناشطين اوروبيين مع المحتجين في الميدان. لكن صفحة المواجهة الروسية – الاوكرانية لم تُغلق تماماً، بدليل التصريحات التي صدرت عن اوكرانيا بعد ذلك بأن خيار التقارب مع اوروبا «استراتيجي»، ما أغضب موسكو التي طالبت يانوكوفيتش باحترام التزاماته أمامها. في هذه الأجواء، وبتأثير حاجة موسكو الى تعزيز قيادتها في منطقتها الحيوية، اي الفضاء السوفياتي السابق، سرّع الكرملين خطوات اعلان قيام الاتحاد الاوراسي الذي بات متوقعاً ان يظهر رسمياً مطلع العام 2015، وكذلك جهود توسيع الاتحاد الجمركي الذي يهدف إلى توحيد الفضاء الاقتصادي الاقليمي. وتأمل موسكو في ان تنجح جهودها في اقامة اتحاد اوراسي يجمع ثمانية بلدان سوفياتية سابقة ويكون مفتوحاً لعضوية بلدان من خارج الاقليم. في مقابل الازمة في اوكرانيا التي اظهرت هشاشة الموقف في الفضاء السوفياتي وقدرته على ارباك السياسة الروسية الصاعدة عالمياً، برزت تطورات لا تقل اهمية في قرغيزستان وكازاخستان وأرمينيا ومولدافيا، وهذه البلدان ابدت رغبة خلال العام الأخير في تعزيز التقارب مع موسكو. نزعة قومية أما داخلياً، فقد كان عنوان العام بلا منازع: آليات مواجهة الهجرة غير الشرعية. هذا الموضوع غدا الاكثر تداولاً في وسائل الإعلام وعلى الصعد الحزبية وفي مداولات البرلمان. واكتسب الموضوع بعداً حاداً بعد وقوع مواجهات دموية بين متطرفين قوميين ومهاجرين قوقازيين. وبات ملف سن قوانين تقيّد الهجرة وآليات للتعامل مع الاجانب، يشغل بال النخب السياسية أكثر من أي ملف معيشي او اجتماعي آخر. ويرى البعض ان الكرملين يغض الطرف في شكل متعمد عن تصاعد المد القومي المتطرف ويساهم في اثارة هذا الموضوع لصرف الأنظار عن مشكلات أخرى حادة. ويكفي ان كل التقارير الأمنية والحكومية تحمّل الوافدين الاجانب وخصوصاً من منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى المسؤولية عن تصاعد معدلات الجريمة وكل مصائب روسيا الأخرى. أيضاً، برز الفساد بصفته الغول المستشري الذي يعرقل تطور روسيا، حدثاً رئيساً خلال 2013، خصوصاً مع الكشف عن فضيحة فساد كبرى في وزارة الدفاع، ما اطاح رؤوس جنرالات عدة، بينهم وزير الدفاع المقرب من بوتين اناتولي سيرديوكوف، على رغم أن الأمر لم يصل إلى درجة سجنه ومحاسبته على المخالفات الكبرى. بهذا المعنى، يعترف مقربون من الكرملين بأن محاربة الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة لم يصل إلى مستوى «رؤوس الفساد» في الدولة، وما زال يراوح عند موظفين صغار حصلوا على رشاوى لتحسين ظروفهم المعيشية. في كل الأحوال، ومع كل التناقضات الداخلية والخارجية التي عاشتها روسيا خلال 2013، يعتبر الروس أنه كان عاماً «سعيداً»، وأظهرت استطلاعات رأي خلاله، أن الروس مقتنعون بأن بلادهم وظروفهم المعيشية تتجه نحو الافضل، على رغم أن ثمانية من أصل كل عشرة شملهم الاستطلاع، لم يتمكنوا من تحديد «الأفضل» الذي يتطلعون إليه. يبقى أن أكثر ما ميز العام 2013 والمقصود «عودة روسيا لتكون قطباً عالمياً» على ضوء «الانتصارات» في سورية و «النووي» الإيراني، وغيرهما، يجد تفسيرات مختلفة عند الخبراء الروس. ويلفت معارضون إلى أن «المبشرين بعالم جديد اكثر عدلاً بسبب الظهور الروسي القوي، يتجاهلون أن ما يجري في العالم حالياً هو صراع داخلي بين قوى متشابهة على المصالح»، كما قال الخبير الكسندر شوميلين، معتبراً أن «الانتصارات الجزئية داخلياً وخارجياً التي حققتها روسيا هي في الواقع انتصارات لبوتين وفريقه وليست لروسيا على المدى البعيد». واعتبر آخرون أن روسيا أغلقت باب الماضي في هذا العام، وفتحت على طريق جديد لا تعرف بعد طبيعته، لكنه في اتجاه واحد، أي لا عودة فيه إلى عهد التبعية للغرب.