أحرجني الموظف في مطار بيروت. سألني ان كان الهدف من زيارتي اجراء حوار مع أحد المسؤولين أو السياسيين. أجبت أن لا مبرر للحوارات. سيقول كل واحد منهم إنه مولع بالوحدة الوطنية، وإن الحكومة تطبخ على نار هادئة بانتظار نضوج الإشارات الاقليمية. وأنا أخاف كلما أفرط السياسيون في الإشادة بالوحدة الوطنية. أشم فوراً رائحة حرب أهلية. أو فتنة مذهبية. ثم إنني لا أحب هذا الأسلوب في الطبخ وتسوّل التدخلات الإقليمية والدولية لتحديد مكونات الطبخة ومقاديرها. سألني ان كنت سأنتظر ولادة الحكومة. قلت إن القصة طويلة وهي في أيدٍ أمينة. سألني عن الهدف من زيارتي. تفاديت الإجابة. سيشعر بخيبة عميقة لو كشفت له السبب. القصة بسيطة. أنا أحب الخريف. وأفضل أن أكون في استقباله. وأقدِّم موعدي معه على كل موعد آخر. الخريف أفضل من الآخرين. لا يناور ولا يكذب. يتقيد بموعده والتزاماته. لا يستأذن أحداً. ولا ينتظر نضوج الإشارات الإقليمية. دعك من الوحدة الوطنية. أنا أحب الخريف. أول المطر ورائحة التراب. أول الرياح وارتباك العصافير. وحيرة البحر بثوبه الأزرق. وتراكض السحب كلصوص يفرون من وجه العدالة. أحب الخريف لأنه زائر جميل ومحايد. لا يحمل حقيبة ولا يدّعي وساطة. يصعب اتهامه بالانضواء في 14 آذار. يستحيل اتهامه بالتعامل مع 8 آذار. لا يمكن حشره في معسكر الاعتدال والمعتدلين. لا يمكن اعتقاله في معسكر الممانعة والممانعين. زائر جميل وحر. لا علاقة له بالمعادلة اللبنانية الفذة. ولا بالممارسات اللبنانية الفذة. لم يرد ذكره في اتفاق الطائف. ولم يقيّده اتفاق الدوحة. لم يتورط في حروب الزعامة المارونية. ولم يتدخل في التجاذب السنّي - الشيعي حول مستقبل لبنان. لا أريد القول إنه فصل وفاقي. أفضل إبقاءه خارج هذه التسمية حفظاً لهالته وكرامته. تفسد السياسة اللبنانية كل المواعيد. تستدرجك الى المقارنات. بدل الانهماك بالعصافير المرتبكة تنشغل بالشعوب اللبنانية المرتبكة. هل هذا خريف الصيغة اللبنانية العاجزة عن هضم التحولات العميقة التي ضربت المجتمع اللبناني أو بعضه؟ هل هذا خريف البيت اللبناني القائم على التعدد والاعتراف المتبادل ولغة منتصف الطريق؟ هل هذا خريف اتفاق الطائف الذي تعذر عليه إدراك معاني اغتيال رينيه معوض وإعدام صدام حسين ونظامه واغتيال رفيق الحريري ودروس حرب تموز؟ هل هذا خريف الدولة اللبنانية الحالية ومؤسساتها أم خريف لبنان كموعد ومختبر؟ وهل كلفت هذه "الشعوب" المحشورة في أرض ضيقة مهمة صعبة ومستحيلة في منطقة تنحدر مسرعة نحو خريف انتحاري قاتم؟ ما أقسى أن تكون عربياً في هذا الزمان وهذا المكان. هل هذا خريف الأمة الممددة بين الماء والماء. تتآكل هيبتها وتستباح مصالحها وتضطرب دولها فيقرع الانتحاريون بوابات مدنها ومؤسساتها ويغتال الليل ما بقي من أفكار وقناديل. خريف العرب وخريف التضامن العربي. دول تتفكك على موسيقى ولاءات أقل من فكرة الدولة والمؤسسات. ودويلات لا تعد بغير الاحتراب والجنازات. لم يبقَ من لبنان غير الفصول. أربع حقائب سيادية. الخريف والشتاء والربيع والصيف. الخريف أجملها وأصدقها. الحديث عن حقائب سيادية على الأرض مجرد لعبة في بلد يعالج افتضاح الأكاذيب بارتكاب المزيد من الأكاذيب.