يطرح الشاعر المصري شريف الشافعي في ديوانه «كأنه قمري يحاصرني» (دار الغاوون- بيروت) ثلاثين نصاً قصيراً، معتمداً على شعرية بصرية مكتنزة، تحتفي بكواليس العالم الحائر والقلق والمتشتت. تتبدى من خلال العنوان نفسه صورة القمر بوصفه رمزاً يحاصر الذات الشاعرة، وهي دلالة متحركة مرتبطة بلحظات ولادة القمر ونموه من وقت إلى آخر، ثم انحساره وموته، فيكون مرة مضيئاً ومرات أخرى مظلماً أو منكسراً في لحظات خسوفه. لكنّ الشاعر أضاف دلالة معكوسة للقمر، بما يمثله من بهاء وجمال، كمحاولة الخروج منه، وكأنه الشعر الذي يغفو ويصحو داخل ذات متقلبة ما بين الإقامة في رحمِه والخروج عنه. يرتكز الشافعي على تقنيات فنية اخترعها داخل نصه، وهي تيمة أصيلة في نصوصه السابقة، كما أنه طورها في هذا الديوان، بمعنى أنّه كسر المنطق المجازي داخل قصيدة النثر، كقوله: «أما الكذبُ، فلمْ يقلْ شيئاً، ورغم ذلكَ، هو الصَّادقُ الوحيدُ هذا الصباح». الخروج من منطق الأشياء إلى اللامنطقية الشعرية يمنح قصيدة النثر مفارقة لامنطقية أيضاً، وهي أن العالم أصبح جمرة مشتعلة من «الكذب الصادق»، فصار واقعاً لا ملامح له، وليس له طريق واضح لدروب هذه الحياة. ويقول أيضاً: «ينزفُ السِّكِّينُ دماً، مَنْ جَرَحَهُ يا ترى؟»، حاول الشاعر إرباك المتلقي، انتقل بالسكين من موقف الجاني إلى موقف المجني عليه، متسائلاً عن ماهية الجاني داخل النص، وهو موقف مكثف لجأ إليه الشاعر كنوع من الحقيقة الصادمة، للتأكيد على انعدام وجود حقيقة واحدة في هذا العالم المربك المختلّ داخلياً وخارجياً على حد سواء. يوظّف الشافعي مفردات الطبيعة الصاخبة من خلال شعرية التساؤل المخاتلة، فيقول في المقطع رقم 8: «الأرضُ للشمسِ: متى ينقضي كُسُوفُكِ؟/ الأرضُ للقمرِ: مَنْ أنتَ؟ متى تخلعُ قناعَكَ؟/ الشمسُ والقمرُ للأرضِ: تساؤلاتُكِ فصوصُ العتمةِ». تبدو صورة الذات الشاعرة المرتبطة بشعر الميتافيزيقا، في المقطع السابق، مهمومة بالبحث خلف الأشياء وتشكلاتها وحدوثاتها، كأنها تشكلت رغماً عنها. ففي الحوار الشعري السابق نلاحظ الأرض التي تخاطب الشمس، وكأنها ضاقت بما ألمَّ بها من كسوف نفسي أثر على حياة الذات الشاعرة، وتعلن الأرض غضبها على القمر، حتى يخلع أقنعته المظلمة، متجلياً في عتمة مباشرة حتى لا تختل حالات العشق الإنساني داخله، ويُنهي القمرُ والشمسُ الحوار بقولهما: «تساؤلاتكِ أيتها الأرض هي «فصوص العتمة»! . تبزغُ هنا روح ابن عربي في مقاطع البحث عن علاقة الإنسان بالكون والأشياء المحيطة، وهي من الأسرار الإلهية التي لا ثوابت فيها فارغة، لأنها ممزوجة ومتداخلة في ما بينها. وكأنّ المطلق الذي كسره النص، يحيلنا إلى تساؤلات أكبر، مفادها: ما سر هذا العالم الأرضي والسماوي؟ وكيف تشكلت أجنحته التي أربكت الذات الإنسانية؟... حاول الشاعر أن يمزج من خلال قصيدة النثر بين الصوفي والميتافيزيقي؛ لأن النزعة الصوفية تبدو حادة، لذلك نجد في كثير من قصائد الشافعي تلك الروح الشعرية التي تمزج بوعي شديد بين عالمين يبدوان منفصلين ظاهرياً؛ لكنهما باطنياً أكثر التحاماً وقدرة على خرق نواميس العالم الجامد. ونلاحظ ذلك أيضاً في قوله متحدثاً عن علاقة النور بالعالم: «النورُ: عالَمٌ يَسْكُنُنَا، والعالَمُ الذي نَسْكُنُهُ: الظَّلامُ». تطل المفارقة الوجودية برأسها في المقطع السابق من خلال العلاقة بين النور الذي تحلم به الذات الشاعرة في جوانيّتها، متصادمة مع العالم الخارجي المظلم الذي تسكنه، وكأنها لا تجد تفاوتاً بينهما طالما يتحدان في إنتاج صورة لعوالم تتشكل من البياض والسواد اللذين يُغَلِّفَان حسها الإنساني، كما في قوله: «غارةٌ تلو أخرى/ طيّاراتٌ بلا طيّارينَ/ موتٌ لا يخصُّ أحداً بِعَيْنه/ خنادقُ كاملةُ العددِ، أغلقتْ عيونَها/ كلُّ ما حولنا قابلٌ للإزاحةِ، بمزيدٍ من الحظِّ، إلا كشَّافات الإضاءةِ القويَّة/ كمْ أنتَ قاسٍ وَأَسْوَدُ، أيها الأبْيَضُ». يتكّئ الشافعي في بنية نصه على سرد مكتنز يومئ ولا يفصح، من خلال بنيات مشهدية تتخلق من بين ثنايا المفردات التي تسجل حركية اللحظة السينمائية القصيرة، ينتج عنها عالم أسود من البياض الذي تهمس الذات الشاعرة في جنبات حياته، ويقول الشاعر في مقطع الغريب: «الغريبُ/ الذي يعبرُ الطريق/ ليس في حاجةٍ إلى عصا بيضاء، ولا كلبٍ مدرَّبٍ/ هو بحاجةٍ، إلى أن تصيرَ للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء». يرصد النص حالة الذات الشاعرة التي تنسج لحظات الغربة الجوانية، لأنها تبحث من طريق يحضن الغرباء أو يجد الغرباء أنفسهم داخله من دون الشعور بآلام الغربة والفقد، فهي لا تحتاج إلى عالم مصنوع من «البياض المزيف»، مقدار احتياجها إلى «كشف حياتي» يدلها إلى الحضور الذاتي داخل العالم، بحثاً عن الإنسان البسيط العابر على طرقات الغرباء الذين يشبهونه. وتكمن المفارقة الإنسانية أيضاً في نصوص شريف الشافعي في قوله: «سأمشي على قدمٍ واحدةٍ، وأؤجِّلُ الأخرى للرُّجوع/ يا لَبُؤْسِي! حتى الحذاء أخْطَأَتْهُ قدمي». قصائد شريف الشافعي في مجموعته «كأنه قمري يحاصرني» تصوِّر الذات الإنسانية التي تحاول خيانة قراراتها المتعجلة، لتغوص أكثر في مأساتها الخاصة وتبدو الذات القلقة كأنها تحاول خيانة قلقها في قراراتها المتعجلة.