هل كان متوقعاً حقاً أن يؤدي اجتماع جنيف المقبل إلى اتخاذ قرار برحيل الأسد، أو على الأقل بتعيين موعد لرحيله؟ ينبغي على من يفترض ذلك أن يسأل نفسه عن الجهة التي يمكنها اتخاذ قرار كهذا، وكذلك عن قدرتها على تنفيذه. وهي لا وجود لها، لا في الحالة السورية ولا في سواها. ويبدو صبيانياً ونزقاً افتراض أن مؤتمراً دولياً يمكنه أو يُتوقع منه ذلك، ما يعني شطب روسيا والصين وإيران... على الأقل! ومن جهة أخرى، وخارج إطار المؤتمرات، اتضح بصورة كافية أن لا جهة دولية ستشن غداً حرباً على سورية ولا حتى غارات عسكرية، تُنهي ببساطة حكم الأسد وتسلم السلطة للجيش الحر مثلاً، وتتركه يصارع داعش وحاشا وسواهما من التشكيلات. وأن تكرار ما جرى في ليبيا غير ممكن، علاوة على أن المشهد الليبي الحالي يجعله غير مستحب. وأما سيناريو العراق فسياقه مختلف بالكامل وأصلاً: لحظته الدولية والإقليمية، والتمهيدات التي رافقته وتطلبت حربين عالميتين شنتا على البلد وسنوات من الحصار، ثم الخلاصات التي أسفرت عن الغزو والاحتلال والتي يُجمَع على أنها كارثية. هذا زمن انتهى. وهو كان قصيراً خاطفاً على أية حال. والمدهش أن الأميركيين أنفسهم يقولون ذلك علناً وبطرق مختلفة، ولا أحد يسمع أو يرتِّب على تصريحات مسؤوليهم نتائجها. بل تدور على أثرها حفلة هجاء وندب على طريقة «يا للخيانة»، وتظهير لسيناريوات تآمرية عن صفقة مع إيران الخ... وهناك من يأسف لأن خطوة توريط واشنطن في عملية عسكرية هنا لم تنجح. وهي، حتى لو كانت حدثت في أي لحظة، وبعد أحداث كاستخدام الكيماوي أو غيرها من المجازر، وعلى فرض إمكان تجاوز التصدي الروسي والصيني لها، ديبلوماسياً وعملياً، لكانت محدودة ولأججت الصراعات الدائرة ودفعتها إلى الإفلات من كل عقال، وليس العكس. وهناك من يأسف أكثر للتفاهمات الدولية مع طهران التي تنجح. وفي ذلك كله قفز فوق المعطيات السياسية على كل المستويات، وخلط خطير بين الأمنيات والواقع، وتسويق لأوهام، وغش للناس لا يفعل غير إلحاق مزيد الأذى بهم، تماماً كذلك الغش الذي مورس حين جرى إيهامهم، بواسطة تصريحات دولية ولقادة المعارضة السورية آنذاك، أن أمر الخلاص من نظام الأسد يتطلب صموداً لأيام أو أسابيع بالأكثر. وبدا آنذاك كل كلام يناقض هذه التأكيدات، ويبْرز الطبيعة الشاقة والمعقدة للمواجهة، واستعصاءاتها، ويتوقع استطالتها، وكأنه مُغرض، يدافع عن النظام، وكأن الأمر يُحسم بالانحيازات الارادوية، الذهنية والأخلاقية، ويتطفل عليه التحليل المركب والاتجاه لقياس المعطيات الواقعية! وهو نفسه الموقف اليوم، الذي يريد تلخيص المشهد وتبسيطه بأن «المجتمع الدولي» يخاف انتشار القاعدة في سورية ولذلك «قرر» الإبقاء على سلطة الأسد، بينما يتحكم في الواقع ويفعل فيه ألف اعتبار آخر، مما لا ينفع تجاهله والتعمية عليه. والتشديد على تلك الاعتبارات لا يتضمن محاباة للأسد ولنظامه، ولا تقديم تبريرات لهما. ثم، وعلى فرض هُزمت الثورة السورية غداً، فلا يعني ذلك أبداً أن الأسد ونظامه ومؤيديه كانوا على حق. فالانتصار والهزيمة ليسا هما من يحدد شرعية أي فعل سياسي، علاوة على أن الثورات غالباً ما تُهزم، وأن الاستثناء هو نجاحها في تحقيق أهدافها، تلك المباشرة المتعلقة بالاستيلاء على السلطة، والأخرى التي تلي هذا الابتداء... إن عالماً كاملاً من الوهم والتزوير قد حكم المسألة السورية وتحكم بالعقليات المحيطة بها والمتعاطية معها. وهو عالم بدأ بُعيد اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، حالما طغت عليها حالة المجابهة المسلحة، أو ما يُنعت بالعسكرة، فارضة تغييراً عميقاً في معطيات المشهد العام. ولا يتعلق الأمر بالنجاح في المحاجّات، كالقول مثلاً إن السلطة استخدمت عنفاً مفرطاً، ما استدعى الرد المسلح عليه. اذكر هنا أن عدداً من ذوي النفوذ (الفكري على الأقل) قالوا في تلك المرحلة إنه يحق استخدام السلاح للدفاع عن النفس بوجه الشبيحة. وهم كانوا حينها مربكين ومحرجين، يعرفون أن مقولة «الدفاع عن النفس» لا تستقيم، ولكنهم لا يجرأون على إعلان رفضهم للعسكرة التي كانت قد بدأت، ويحتمون خلف حقيقة أن السلطة كانت تدفع الناس دفعاً لاستخدام السلاح. يعرفون ذلك ويؤكدونه، ولكنهم لا يصلون بهذا المعطى الى نهاياته: حسناً، لماذا تفعل السلطة ذلك، وما النتائج المترتبة على قدرتها على فرض شكل المجابهة. يقولون إن الدفع نحو العسكرة سيبرر لها ممارسة القمع، إذ تعتد بأنها تواجه إرهابيين والفوضى. ثم يعاودون الوقوف في نقطة تسبق الاستنتاج السياسي، الذي يفترض أن تُبنى عليه الخطة المضادة. وقيل إن النظام أطلق سراح القياديين في التنظيمات المرتبطة بالقاعدة المعتقلين في سجونه، وتركهم يسرحون ويمرحون. وهذا بات مؤكداً وموثقاً. ويبدو إيراد هذه الواقعة، هنا أيضاً، اقرب إلى المنازلة الكلامية والتفوق في المحاجّة منه إلى السياسة بما هي مخططات تنطلق من هندسة معطيات الواقع: انظروا كم هي سافلة هذه السلطة التي تتعمد العسكرة وتدفع الناس إليها عبر تنظيم الانتهاكات الفظيعة، وعبر تسهيل انتشار السلاح بل توفيره لو لزم الأمر، وعبر إطلاق من تتوقع تماماً سلوكياتهم وما سيعيثون... كم هم حقراء! اشهدوا يا قوم. ثم ينتهي الأمر بالانسياق إلى ما خططت له السلطة. وفي مرحلة ثالثة، بدأ عهد التدخلات الخارجية العلنية، العربية والإقليمية والدولية. وراحت الساحة السورية، التي كان الدمار قد زحف إلى معظم أرجائها، تنسل من تحت أقدام السوريين أنفسهم بينما هم ضحاياها، ليظهر اللاعبون الخارجيون يخططون وينظمون ويمولون ويصرحون ويقاتلون... إلى آخر مظاهر الفعل السياسي. وتمكّن من عقول المعارضين، قيادات وقواعد، ان تدويل الصراع وأقلمته يجعلان العالم كله يتنفس وفق الإيقاع السوري ولا شيء سواه، وأنه سيتدخل لفرض ما يرى، بغض النظر عن أي حساب. لقد استمر القصور السياسي سمة طاغية في كل محطات المأساة السورية. وبالطبع لا يعوض ذلك الاعتداد بالحق والظلم والعدل الخ... هذه تشد فحسب من عزيمة من يؤمن بأنها إلى جانبه. ولكنها لا تعوضه نواقص فعله الذاتية، ولا تتحكم بالمعطيات العامة، ولا تقرر المآلات.