تستعيد مصر الآن حلم إنشاء محطّة نوويّة لتوليد طاقَة الكهرباء. وفي وقت سابق، ومن أجل هذا المشروع بالذات، أُنشِئت «هيئة الطاقَة الذريّة» (1957). وبسبب ظروف متنوّعة، تعطّل ذلك المشروع. ويجري العمل الآن على طرح مُناقَصَة عالميّة لإنشاء محطّة الضَبْعَة النوويّة، خصوصاً في ظل أزمة الطاقَة التي تعانيها مصر. وعلى رغم ذلك، هناك أسئلة كثيرة عن الجدوى الاقتصاديّة لهذا المشروع، ومدى احتياج مصر له، ومدى توافر الإمكانات الفنيّة والتقنيّة التي تمكّن من إدارته. كما تتعالى أصوات تنادي بقصر مشروعات التوسّع في الطاقَة مصريّاً، على الطاقات المتجددة كالشمس والرياح. وتحذّر أصوات أخرى من أنه لا خيار آخر أمام مصر إلا التوجه للطاقَة النوويّة، إضافة إلى الاشتغال على الطاقات المُتجدّدة. في هذا السياق، التقت «الحياة» الدكتور حامد رشدي القاضي، الرئيس السابق ل «هيئة الطاقَة الذريّة» المصرية. ويشتهر القاضي بأنه أسّس قسم البيولوجيا الإشعاعية في «هيئة الطاقَة الذريّة المصرية، و «المركز القومي المصري لبحوث وتكنولوجيا الإشعاع»، و «المجلة المصرية للعلوم الإشعاعية وتطبيقاتها». وعمل على إدخال تقنيات التشعيع الاصطناعي والإلكتروني إلى مصر، إضافة إلى إدخال منظومات نوويّة إشعاعية شملت المعمل الإلكتروني العلاجي في كلية طب القصر العيني. رؤية الستينات استهل القاضي حديثه بالتشديد على أن المُستَقبَل يحتّم على الدول العربية الدخول في مجال الطاقَة النوويّة، داعياً الجامعات العربيّة إلى الاهتمام بهذا المجال، والى التعاون بين المؤسّسات العربية في برامج مشتركة بهدف إدخال العالم العربي بقوة إلى عوالم الذرّة، وبإمكانات عربيّة أيضاً. وعن تاريخ الطاقَة النوويّة في مصر، قال: «برامج الطاقَة النوويّة في مصر ليست وليدة اليوم. لنلاحظ أيضاً أن دولاً كثيرة سبقتنا في اجتياز حواجز كانت تعوق استفادة الدول الناميّة من الطاقَة النوويّة. وأنشأت مصر «هيئة الطاقَة الذريّة» في 1957. وفي 1962، بدأ أول مُفاعِل مصري العمل، عبر عمل بحثي. ثم تقرّر في 1964 إنشاء «مُفاعِل القِوى» لتوليد الطاقَة الكهربائية من الطاقَة النوويّة. وحينها، كانت رؤية «هيئة الطاقَة الذريّة» أن يكون مُفاعِلاً متعدّد الأغراض ليستخدم في تطبيقات تشمل توليد الكهرباء وتحلية مياه البحر. وتنبّهت الإدارة المصرية مُبكراً إلى مسألتي الطاقَة والمياه، وتنامي الحاجة إليهما باستمرار». وأكّد القاضي أن الإعداد لهذا المشروع كان متكاملاً، بل أوفِدَت مجموعات للإعداد له، من بينها مجموعة لاختيار شتلات زيتون تزرع حول المُفاعِل، وكان اسمها «التجربة الزراعيّة لمشروع مُفاعِل القِوى». وحاولت مصر إقناع بعض الدول العربية الغنيّة بالدخول في هذا المشروع، لكنها لم تتحمس اعتماداً على ما لديها من مصادر الطاقَة الأحفورية. ومع مضيّ الوقت، ثبت أن الرؤية المصرية كانت ثاقبة، إذ تحتاج المنطقة برمتها الآن إلى زيادة مصادرها من الطاقَة، والحدّ من استهلاك الوقود الأحفوري حتى لا يستنفد مخزونها من الثروات الطبيعيّة. واستعاد القاضي أيضاً أسباب تعطّل المشروع النووي المصري، وكذلك علاقة الأمر مع إنشاء «السدّ العالي». وأوضح أنه لم يُنظر وقتها إلى «السدّ العالي» بوصفه مصدراً كافيّاً للوفاء بحاجات مصر من الطاقة كلها، خصوصاً على المدى البعيد. وبيّن أن مشروع المحطّة النوويّة مر بمراحل عدّة عرقلت إنشاءه. وقال: «في 1964، اختيرَت منطقة «برج العرب» لإنشائه. ثم ارتُئِيَ استبدال موقع «سيدي كرير» بها. وبدأت الاستعدادات بالفعل لإنشاء المُفاعِل في سبعينات القرن الماضي. لكن المجلس البلدي لمدينة الإسكندرية اعترض، على أساس أن «سيدي كرير» امتداد طبيعي للإسكندرية، وهي مدينة سياحية. ثم اتّخِذ قرار بتغيير الموقع إلى الضَبْعَة. وفي 1985، طُرحت مُناقَصَة عالميّة لإنشاء المُفاعِل. وكنا على وشك توقيع العقد. ولكن للأسف وقع حادث «تشرينوبيل» في نيسان (إبريل) 1986. وتوقّف المشروع. وبدأت دول بينها مصر، وقف المُفاعِلات الجديدة، إلى حين تطوير معايير أشد أماناً. انتظرنا طويلاً جداً حتى وصلنا إلى 2013. نحتاج إلى إنشاء هذه المحطّة، لأن مصر دخلت في عنق الزجاجة في الطاقَة. في الماضي، كُنّا ننتج بترولاً يفي بحاجاتنا محليّاً مع فائض صغير للتصدير. والآن لدينا عجز في الطاقَة، وأيضاً نكتوي بالأسعار التي تزيد يوماً بعد يوم. إن إنشاء المحطّة الآن سيكون بضعف كلفته في ثمانينات القرن العشرين، لكن كلفة استيراد الطاقَة باتت كبيرة جداً أيضاً، كما تتجه مستودعات البترول إلى النضوب عالميّاً. وليس أمامنا مخرج سوى تنمية مصادر الطاقَة المتجددة كالشمس والرياح، مع توليد الطاقَة من المحطات النوويّة، وأن تُستخدم في تحلية مياه البحر». العِلم أيضاً وأيضاً تناول القاضي حادث مُفاعِل «فوكوشيما» في اليابان وما تركه من آثار على خيار الطاقَة النوويّة. ووصف ذلك الحادث بأنه عارِض، مع ملاحظة أن حوادث الطاقَة النوويّة قليلة جداً بالمقارنة مع أنواع أخرى من الحوادث المُتّصلة بالطاقّة. لفت أيضاً إلى حدوث طفرة علمية كبيرة منذ حادث مُفاعِل «تشيرنوبيل»، خصوصاً في ما يتّصل بنُظُم التحكّم والأمان في المُفاعِلات. واستنتج أن هذه الحوادث لا تصلح مبرّراً للتراجع عن خيار الطاقَة الذريّة. وعرض القاضي رؤيته الى إمكانات مصر علميّاً وعمليّاً في هذا المجال، ومدى قدرتها على إدارة محطّة نوويّة بأمان كامل. وأعرب عن اعتقاده بأن مصر لديها «إمكانات كبيرة، بل إن فِرَقَها العلميّة تدير مُفاعِلين نوويين بحثيين أحدهما في «أنشاص» والآخر مُفاعِل أرجنتيني وقّعت عقده أثناء رئاستي ل «هيئة الطاقَة الذريّة». وعانت مصر ضغوطاً بهدف عدم إنشاء مُفاعِلات، لكنني أصررت على إنشائه، بقدرة 22 ميغاواط/ساعة. وتبلغ قدرة مُفاعِل «أنشاص» 2 ميغاواط/ساعة. وهذان المُفاعِلان البحثيان يعملان بالكوادر المصرية. وحُدّثَ مُفاعِل «أنشاص» غير مرّة. ويعتبر هذا شهادة خالصة للمصريين بأنهم يستطيعون إدارة برنامج نووي بكفاءة كاملة. في دول اخرى، لربما أُحيلَ مُفاعِل «أنشاص» على التقاعد. ويقدّم المُفاعِلان خدمات جليلة في مجال النظائر المُشعّة التي تستخدم طبيّاً وتغطي حاجة المستشفيات منها، كما تستخدم في الزراعة والصناعة». وأشار القاضي إلى وجود قسم مخصص للمُفاعِلات النوويّة في كلية الهندسة في جامعة الإسكندرية، وأنشئ القسم بهدف إقامة مُفاعِل تدريبي- تعليمي في الجامعة نفسها. وأوضح أن هذا الأمر لم يحدث إلى الآن، لكن القسم استمر في تخريج مهندسين نوويين، داعياً الجامعات الأخرى للسير على خطى جامعة الإسكندرية في هذا الشأن. وطالب القاضي بأن تستعيد «هيئة الطاقَة الذريّة» استقلاليتها، مُشيراً إلى أنها تتبع الآن وزارة الكهرباء، موضحاً أن الشأن الذريّ لا يقتصر على توليد الكهرباء، بل يشمل أغراضاً متنوعّة كتحلية المياه. الداخل قبل الشرق والغرب! تناول الدكتور حامد رشدي القاضي مسألة المناقصات والمكاتب الاستشارية المتّصِلَة بالمُفاعِلات النوويّة، وطُرُق ضبط العمل في هذا الشأن. وقال: «للأسف إن سياسة المُفاعِلات عموماً لا تخضع للرؤى الاقتصاديّة والفنيّة وحدها، بل تحكمها الاعتبارات السياسيّة أيضاً. أحياناً، تطلب دولة ما تكنولوجيا معيّنة، لكن الدول الكبرى التي تصنع المُفاعِلات ربما تعطي موافقتها لدولة وتحجبها عن اخرى. وتعرّضت الطروحات المصريّة في المسألة النوويّة لهذا الشأن منذ حقبة الستينات من القرن الماضي. وحينها، كنا نضع تصوراتنا للمفاعل، ثم تأتينا عروض مختلفة تماماً عمّا خطّطنا له. ولذا، لا بد من الحرص في التعامل مع المكاتب الاستشاريّة للمُفاعِلات، إذ تملك معظم المكاتب صلات مع حكوماتها. وإذا أردنا ألا يفرض علينا أحد رؤيته، فرأيه الفني يكون مُسيّساً. علينا أن نستفيد من الإمكانات البشريّة والفنيّة داخل مصر أولاً، ثم تستكمل الصورة بالعناصر الخارجيّة». الإمكانات الذاتيّة تحدّث القاضي عن مسألة مهمة أيضاً تتصّل بالجهة التي يجدر بمصر أن تتعامل معها للحصول على التقنيّات المناسبة. وقال: «قبل طرح السؤال عن التوجّه شرقاً أو غرباً، يجب أن نتجه أولاً إلى الداخل، بمعنى أن نتعرّف الى الإمكانات البشريّة والفنيّة الذاتيّة، مع اختيار خبراء من هيئات علميّة مستقلة تماماً، وبعدها تجري الاستعانة بالأجانب في أضيق الحدود. بالنسبة للتكنولوجيا، هناك تقارُب كبير بين الشرق والغرب في هذا المجال، ما يتيح لنا التنوّع في المصادر والاستفادة مما يقدّم شرقاً وغرباً». وضرب القاضي مثلاً بإنشاء «مركز تكنولوجيا الإشعاع». وقال: «أتحدى بهذا المركز العالم، بفضل نظامه وتصميمه ونشاطاته، إذ بدأتُ من الصِفْر في مصر، ولم أنقل عن أية دولة، بل اعتمدت على باحثين مصريين. وعندما طلبتُ بعض التمويل من الأممالمتحدة، وافقوا مشترطين أن يكون للمشروع مدير أجنبي. وأرسلوه فعليّاً. ومكث قرابة شهرين. لكننا لم نكن بحاجة له. وخاطبتُ الأممالمتحدة في ذلك، فعاد المدير الأجنبي أدراجه. وعملتُ مع زملائي المصريين على تصميم الأشياء كلها في هذا المركز». وذكّر القاضي بما فعلته الهند عندما فكّرت في الدخول إلى المجال النووي. وقال: «حينها، استدعت الهند أبناءها من أرجاء المعمورة، واستفادت من خبراء أجانب أيضاً، وكذلك عملت على إنشاء مراكز للتميّز العلمي كي تستفيد من خبرات تلك الجموع من العلماء». وأشار إلى أن مصر تمتلك ثروة بشرية كبيرة متخصّصة، مع ملاحظة أن معظم هذه الكوادر سافر إلى الخارج بعد تعطّل المشروع النوّوي المصري. ونصح بإعادة التواصل مع تلك الكوادر، إذا أرادت مصر إحياء مشروعها النووي.