سجل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو على اسمه عنوان «محاربة كل من يفكر بتقسيم القدس وإعادة شرقها للفلسطينيين لتكون عاصمة لدولتهم العتيدة»، لكنه يجد اليوم نفسه في مقدمة الذين يكرسون تقسيم المدينة ويمهدون، بإرادة أو بلا إرادة، إلى انسحاب من أحيائها العربية ربما من طرف واحد، مثلما حصل في لبنان وقطاع غزة. فالعمليات التي ينفذها الفلسطينيون اليائسون من الجمود في مفاوضات السلام توقظ الكثير من الإسرائيليين وتجعلهم يطرحون السؤال: لماذا نبقى هناك، فباستثناء المتطرفين الاستفزازيين لا يدخل هذه الأحياء أي إسرائيلي، ولكن نتانياهو يعمل على الأرض في هذا الاتجاه، فعندما ينشر قواته بكثافة في القدسالشرقية يبدو واضحاً أنها منطقة محتلة، وعندما يقيم الحواجز بينها وبين القدس الغربية يرسم حدوداً للانفصال بينهما. كان آخر ما يمكن أن يفكر به نتانياهو هو أن يصل إلى هذا المكان. ففي معارك الانتخابات الأخيرة التي خاضها (1996 و2009 و2013) كان شعاره الأساسي في مواجهة خصومه هو أنهم يريدون تقسيم القدس، واليوم بعد انهيار الأوضاع الأمنية واتخاذ الإجراءات الانفصالية أمنياً يجد نفسه في خندق واحد مع أولئك الداعين إلى الاعتراف بالحقيقة الأساسية الواضحة أن القدس ليست موحدة والحديث عن وحدتها هو مجرد كذبة أطلقتها القيادات الإسرائيلية الاحتلالية وصدقتها ومررتها على الناس بينما في الواقع المدينة كانت وستبقى مقسمة. «كذبة كبيرة»، هكذا أطلق إسرائيليون على حديث نتانياهو والقيادة الإسرائيلية حول القدس الموحدة. وكما تقول الباحثة ارئيلا هوفمان فان «الحديث عن وحدة القدس طيلة 47 عاماً هو كذبة كبيرة، يثبت بطلانها كل يوم ولكن الإسرائيليين يحبون تجاهلها. بيد أن عملية القتل في الكنيس اليهودي أعادت طرحها في وجوهنا بشكل لم يعد ممكناً تجاهله». وتضيف هوفمان «إن القدسالشرقية لا تبدو أبداً كالقدس الغربية. ولا يوجد أي إسرائيلي تقريباً يزور معظم أحيائها، من البلدة القديمة إلى وادي الجوز وشعفاط وبيت حنينا وجبل المكبر وراس العمود وكفر عقب وأبو طور وباب الزاهرة والطور وسلوان والشيخ جراح وصور باهر وأم طوبا وبيت صفافا والعيسوية. وحتى قوات الشرطة لا تدخلها إلا إذا اعتمر جنودها الخوذ ودخلوا بقوات معززة». وتتساءل: «ما الذي تبحث عنه إسرائيل في هذه الأحياء؟ إن أفضل شيء وأهون الشرور هو في الانسحاب من هناك وتسليمها للسلطة الفلسطينية حتى لو تم الأمر من جانب واحد. وهذه هي مصلحة إسرائيلية بحتة». وعلى أرض الواقع، وفي أعقاب عملية الكنيس اتخذت الحكومة الإسرائيلية ورئيسها سلسلة إجراءات تشكل تقسيماً للمدينة بينها إقامة الحواجز بين القدسالشرقيةوالقدس الغربية ورفع حالة التأهب إلى درجة «ج» (درجة واحدة قبل الطوارئ الحربية) وتعزيز قوات الأمن ورفدها بقوة عسكرية من الجيش. قال الخبير السياسي نير حسونة إن ما يجري «يعكس في شكل جيد عدم نجاعة سياسة السلطات الإسرائيلية في صد موجة العمليات». واعتبر أن ملخص تصريحات رئيس الحكومة ورئيس بلدية القدس ووزير الأمن الداخلي وأعضاء الكنيست يقول «إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد من القوة». وبحسب حسونة فان منفذي العملية وغيرهم لا يتأثرون بالتهديدات والتصريحات التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون. وأضاف: «من يعتبر أن الخطوات التي اتخذتها إسرائيل في أعقاب العملية ستضمن الأمن لإسرائيل هو واهم فالدعوة لهدم المنازل، وإجراءات البلدية بقطع المياه وفرض غرامات عالية لن توقف العمليات، كما أن حملات موظفي ضريبة الدخل والتأمين الوطني في الأحياء الفلسطينية لن تكون رادعة». ويضيف: «أن كتائب حرس الحدود التي تملأ شوارع المدينة ليست ناجعة في مواجهتهم. وبعد تكرار العمليات حان الوقت لفحص التوجه مجدداً». أما رئيسة حزب «ميرتس»، زهافا غلؤون، فقد أعلنت رفضها مد يد العون لحكومة تصب الزيت على النار وتسد كل طريق لوضع حد للعداء والعنف، وفق قولها، داعية إلى الانطلاق نحو عملية سلمية. لكن نتانياهو يرفض، حتى اللحظة، التنازل عن سياسة الترهيب وظهر عبر شاشات التلفزيون ليعلن أن حكومته تخوض حرباً على القدس باعتبارها «العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل». وواصل تهديداته للسلطة الفلسطينية ليحمل محمود عباس مسؤولية العملية، فدخل هذه المرة في مواجهة مع رئيس الشاباك يوسي كوهين الذي رفض موقف نتانياهو، وحظي بدعم واسع فيما فتح نتانياهو الباب أمام أسئلة عدة أبرزها: «هل هدف حكومة إسرائيل ومن يقف على رأسها هو منع مثل هذه العمليات في المستقبل؟ ورأى البعض أن توجيه الاتهامات لأبو مازن يدل على أن الحكومة وضعت لنفسها هدف تعميق القطيعة بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين. وبأن رفض أبو مازن كشريك يأتي لدوافع انتخابية أو أيديولوجية». حرب دينية منذ وقوع عملية الكنيس في القدس ينشغل الإسرائيليون في تحليل أبعاد مثل هذه العملية وما سبقها من عمليات وما أدت به من تدهور أمني في القدس. ويجمع الإسرائيليون على أن هذا التدهور الأمني هو حرب دينية ورأوا أن الانتفاضة التي تتصاعد في القدس سترتدي ثوباً دينياً. وبأن الانشغال المكثف بالأقصى، من جهة، واختيار الكنيس كميدان للعملية، وقتل يهود وقت تأديتهم الصلاة، يعتبر تصعيداً شديداً. وذهب الخبير السياسي رون بن يشان إلى أبعد من ذلك فرأى «أن التطوّرات الإقليمية في العراق وسورية كانت جزءاً من دائرة التأثير التي حرضت القاتلين على أن يفعلا فعلتهما فعملية القدس وقعت بدافع ديني- إسلامي نتيجة التحريض في دائرتين: التحريض الإقليمي بوحي من أفلام داعش والتنظيمات المصنفة معه، والتحريض الفلسطيني والعربي، الذي يدور حول الادعاءات بأن إسرائيل تحاول الإضرار بالمسجد الأقصى». وفي أي طرح إسرائيلي حول الحرب الدينية يحتدم النقاش حول الجمود في العملية السلمية وقد تصاعد مع إرسال بنيامين نتانياهو رئيس الائتلاف الحكومي زئيف اليكين إلى رؤساء أحزاب المعارضة للانضمام إلى حكومة طوارئ. وجاء هذا المطلب بمثابة استفزاز لجهات سياسية وقيادات رأت أن نتانياهو يواصل تهربه من العملية السلمية. وحذر خبراء وسياسيون من أبعاد ذلك وكتب احدهم يقول: «هذه المرة نحن إزاء حرب دينية مباشرة. وإزاء حرب في القدس. صحيح أنه لا يوجد هنا بعد خلايا لتنظيم داعش، ولكن لا شك في أن مظاهر عمليات داعش تترك أثرها جيداً هنا. والسكين التي استخدمت في الكنيس اليهودي خير دليل. من هنا السؤال: أين القيادة؟». وأضاف: «الحرب على غزة كان يفترض أن تذكرنا بما يحظر علينا نسيانه وهو الأفق السياسي. ففي الشرق الأوسط تسقط في اليأس العميق، إن لم يكن لديك أفق سياسي. لقد تعلمنا ذلك في حرب الاستنزاف وفي الانتفاضتين. فحتى لو لم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق سلام، فإن هناك حاجة ماسة لحراك سياسي يمنع الحرب. فمنذ تركنا جون كيري نتخبط في قضايانا لا يوجد أي حراك سياسي، وجاءت حرب غزة وجاء الانفجار الحالي في القدس. وإذا لم نأت بمسار سياسي، فسوف يجر العنف عنفاً ونتدهور إلى كارثة». وفي هذا الجانب أيضاً كان لرئيس الشاباك يوسي كوهين ما يقوله: «البعد الديني لهذا الصراع أمر خطير، فعواقبه تطاول الفلسطينيين والمسلمين في العالم كله. علينا القيام بكل ما في وسعنا لتهدئة الأوضاع»،. واعتبار أن الحرب دينية شمل أيضاً فنانين وأدباء وبحسب الملحنة ارنيه الداد، وهي مستوطنة في مستعمرة تكواع، ف»إن العملية في الكنيس اليهودي هي دليل قاطع على أن ما يجري في القدس حالياً هو حرب دينية تستهدف القضاء على الوجود اليهودي».