في 20 كانون الثاني (يناير) 2015 عندما يلتئم الكونغرس المنتخب سيكون عدد الديموقراطيين في مجلس النواب (بعد أن يكون قد تم العد في الدوائر الانتخابية السبع الباقية) 197 بخسارة 14 نائباً والجمهوريين 248، وسيكون عدد الديموقراطيين في مجلس الشيوخ (بعد انتهاء العد في ألاسكا وإعادة الانتخابات في لويزيانا) 46 مقابل 54 للجمهوريين بخسارة الديموقراطيين ثمانية مقاعد والغالبية التي كانوا يتمتعون بها. حجم خسارة الديموقراطيين كانت أكبر مما تظهر الأرقام، على رغم أنّ خسارة حزب الرئيس بعض المقاعد في الكونغرس في الانتخابات النصفية هي القاعدة التاريخية لهذه الانتخابات. فقد خسر الديموقراطيون في هذه الانتخابات مقاعد في مجلس النواب كانت تعتبر آمنة لمدة طويلة انتخابياً كمقعد النائب من أصل لبناني نك رحال في فيرجينيا الغربية الذي كان يحتله لمدة 38 سنة على التوالي، على رغم أنه أبعد نفسه عن الرئيس أوباما في ما يختص بسياسته الهادفة إلى التخفيف من استعمال الفحم الذي هو مورد أساسي في الولاية، وهو ما خفّض نسبة مؤيدي أوباما في الولاية إلى 25 في المئة مقابل 40 في المئة على المستوى الوطني. وعلى مستوى مجلس الشيوخ من الولاية نفسها ربحت سيدة من الحزب الجمهوري المقعد الذي شغره جاي روكفلر لتكون أول عضو جمهوري في مجلس الشيوخ من ولاية فرجينيا الجنوبية منذ أكثر من 60 عاماً وأول امرأة تصل إلى هذا المنصب في تاريخها. أضف إلى ذلك النجاح غير المنتظر لأول أسود في الجنوب الأميركي لمقعد في مجلس الشيوخ منذ نهاية الحرب الأهلية التي تحرر بنتيجتها السود من العبودية، وهو الجمهوري تيم سكوت من كارولينا الجنوبية. وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن عدد الجمهوريين في مجلس النواب أصبح اليوم الأكبر منذ عام 1928، علماً أن الحزب الديموقراطي خسر 70 مقعداً في المجلس منذ أن تسلّم أوباما رئاسة الجمهورية. بين نيكسون وكلينتون لكن أكثر ما آلم أوباما من دون شك هو خسارة الديموقراطيين مركز حاكم ولاية الينوي التي جاء هو منها وكان عضواً في مجلس شيوخها قبل انتقاله إلى مجلس الشيوخ في واشنطن، خصوصاً انه قام بحملة مكثفة في الولاية لمصلحة المرشح الديموقراطي لمنصب الحاكم. مباشرة، بعد معرفة النتائج الأولية للانتخابات وتأكد فوز الجمهوريين قامت قيادات الحزبين بالكلام عن ضرورة التوافق وإيجاد الحلول الوسط في السنتين المقبلتين لتسيير أمور الحكم، لكن هذا لم يؤخذ كثيراً على محمل الجد باعتبار أن مثل هذا الكلام ضرورة للجهتين لاكتساب الرأي العام أو على الأقل لعدم خسارته. حقيقة الأمر أنّ أوباما سيواجه مشكلة كبيرة في الحكم خلال السنتين المقبلتين ليس فقط بسبب غالبية الحزب الآخر في مجلس النواب والشيوخ، فالماضي مليء برؤساء أميركيين وجدوا أنفسهم في الحالة نفسها، أمثال دوايت ايزنهاور ورونالد ريغان وغيرهما، استطاعوا تجاوز المرحلة بنجاح نسبي. لكنّ البعض الآخر دفع ثمن ذلك غالياً مثل ريتشارد نيكسون الذي اضطر للاستقالة خوفاً من إدانة (impeachment) في مجلس النواب ثم الشيوخ بسبب فضيحة ووترغيت، أو مثل بيل كلينتون الذي أدين في مجلس النواب وأنقذ في مجلس الشيوخ بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي. ومن الممكن أن تحصل محاولة كهذه لإدانة أوباما في مجلس النواب والشيوخ خلال السنتين المقبلتين، علماً أن مجلس النواب أصدر قراراً يسمح لرئيس المجلس بالادعاء على أوباما لإجباره على تنفيذ قوانين المجلس، وهناك دعوات لمحاكمته من قيادات جمهورية، خصوصاً القيادات اليمينية المحافظة. المحافظون آتون الأسوأ بالنسبة إلى أوباما خلال السنتين المقبلتين أن معظم الجمهوريين الذين نجحوا في إزاحة الديموقراطيين، خصوصاً في مجلس الشيوخ هم من المحافظين الذين يعارضون بشدة سياسات أوباما الداخلية والخارجية. ولعل المركز الأكثر حساسية في هذا المجال هو مركز رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ حيث تتم الموافقة على تعيينات كبار الموظفين من وزراء وقضاة وسفراء وغيرهم. فبتغيير الغالبية يخرج من هذا المركز الديموقراطي هاري ريد الذي كان أكبر حليف لأوباما ليحل مكانه ميتش ماكونل الذي يعتبر من ألد أعدائه. وحتى لو أراد ماكونل التساهل فهناك أعضاء حزب الشاي المتشددون وغيرهم من المحافظين داخل الحزب الجمهوري والذين تزايد عددهم في الانتخابات لمراقبته ولجمه. خسر أوباما شعبيته حتى بين فئات الشعب التي كان لها الفضل في انتخابه رئيساً مرتين، أي بين السود واللاتين والآسيويين والنساء والشباب، فنسبة الذين صوتوا للديموقراطيين في هذه الانتخابات انخفضت مقارنة بانتخابات 2012 لكل هذه الفئات، بنسب متفاوتة أقلها بين السود (نقطة واحدة) وأكثرها بين اللاتين (6 نقاط) والآسيويين (23 نقطة)، لكن الخسارة الفاصلة كانت أن الحزب الديموقراطي لم يستطع أن يدفع الكثير من هؤلاء للمشاركة في الانتخابات بسبب الإحباط، كما يقول معظم المحللين. ما الذي جعل أوباما يخسر شعبيته بهذه الطريقة الدرامية؟ في ما يتعلق بالسياسة الداخلية، وعد أوباما في أول عهده بأن يراجع قانون الهجرة وأن يدخل فيه بنداً لتصحيح حال المهاجرين غير الشرعيين ومساعدة المهاجرين الجدد للتأقلم على الحياة الجديدة ورفع عدد التأشيرات للعمال الوافدين في حالات النهوض الاقتصادي، إضافة إلى ما يريد الجمهوريون من تشدد في مراقبة الحدود وضبط الهجرة غير الشرعية. ما حصل بالفعل خلال السنوات الست من عهده هو الفشل في تمرير القانون وفقط في تسجيل رقم قياسي في طرد العمالة غير الشرعية التي هي في معظمها من الأقليات، خصوصاً المكسيكيين واللاتين الآخرين. كما أن أوباما حاول منذ بداية عهده «إصلاح» النظام الصحي واستطاع بعد أقل من سنتين أن ينال من الكونغرس التشريع المسمى إعلامياً «أوباماكير». غير أن مجلسي النواب والشيوخ في حينه كانا يتمتعان بغالبية ديموقراطية بعكس الحال اليوم وكانت شعبية أوباما ما زالت في أوجها. منذ ذلك الحين والاعتراضات تتزايد، خصوصاً أن البرنامج واجه في تطبيقه صعوبات جعلت الكثيرين يفقدون الثقة بقدرة إدارة أوباما على تطبيق القانون، إضافة إلى قسم كبير من الناس الذين لا يوافقون عليه بسبب جهلهم بتفاصيله أو لأسباب مختلفة. حتى الاقتصاد الذي تحسّن في عهد أوباما وخرج إلى حد كبير من المأزق المالي الذي وقع فيه في أواخر عهد بوش الابن، لم ينفع أوباما كثيراً على رغم انخفاض مستوى البطالة، لأن انطلاقة الاقتصاد لم تزل مترددة ولم تترجم بعد بارتفاع في أجور العاملين بشكل عام. ويتهم العمال والمتقاعدون أوباما بأنه أهمل أيضاً إدخال غلاء المعيشة في نظام التأمين الاجتماعي على رغم وجود مشروع قانون بهذا الصدد منذ مدة طويلة. أبحث عن التردد لا شك في أن السبب الرئيسي الجامع يكمن في شخصية أوباما نفسه وقدرته القيادية. فأوباما متردد بطبيعته غير مقدام يصعب عليه اتخاذ القرارات الحاسمة، وهو يواجه المشكلات بخطابات رنّانة بدلاً من محاولة حلها فعلياً. هذه الخطابات والوعود التي أطلقها في حملته الانتخابية الأولى في 2008 أعطت الناس آمالاً كبيرة بأنه سيتخذ القرارات الصعبة لحل مشاكل أميركا الداخلية والخارجية وأن عهده سيكون عهد التغيير، ولم لا؟ فشعاره كان «نعم نستطيع». في خطاب القسم عام 2009 قال أوباما «إن بعض الناس يشكون في حجم طموحاتنا وبأن نظامنا لا يتحمل كثرة مشاريع كبيرة. هؤلاء المشككون لا يفهمون أن الأمور تغيرت وأن الحجج الماضية المهترئة التي حملناها لمدة طويلة لم تعد تفي بالغرض». هذا الرئيس الذي كان وضع كتاباً بعنوان «جرأة الأمل» (The Audacity of hope) انتهى في السنوات الأخيرة يتكلم عن أهدافه بلغة لعبة البايسبول حيث يتطلب تسجيل الهدف الوصول إلى القاعدة الرابعة قائلاً: «أحياناً تصل إلى القاعدة الأولى، أحياناً إلى الثانية. وبين الحين والآخر تستطيع أن تسجل هدفاً... هكذا تتفادى الأغلاط». وخلال رحلته الأخيرة إلى الشرق الأقصى في نيسان (أبريل) الماضي لخّص أوباما سياسته الخارجية للصحافيين المرافقين بعبارة واحدة «لا ترتكب حماقات وسخة» (Don't do stupid shit)، وجعل الصحافيين يرددونها بصوت واحد وكأنه أستاذ في المرحلة الابتدائية يعلم تلاميذه على حفظ الدرس عن ظهر قلب. هذا الفارق الكبير بين الطموحات التي لا حجم لها و«نعم نستطيع» وجرأة الأمل، أحبطت الآمال بقدرة الرئيس على القيادة ما دفع أرون ميلر، المسؤول السابق في عهد الرئيس كلينتون، إلى تسمية أوباما «القائد الأعلى للخيبة» غامزاً من كون أوباما القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويظهر هذا جلياً في الانتقادات الموجهة له في ما يخص سياسته الخارجية. هيلاري كلينتون في كتابها الذي صدر حديثاً تزعم أنها طلبت من أوباما مساعدة الثوار السوريين في بداية الثورة ولم يفعل ما أوصل الأمور إلى ما عليه الآن. وفي مقابلة صحافية حديثة تقول في مقارنة بين أوباما وبوش الابن ما معناه أن التردد في معالجة الأمور بحزم في البلدان التي تحتاجها ليس أفضل من الاعتقاد بأنه ليس هناك مشكلة مهما كبرت لا تستطيع أن تحلها باستعمال الجيش الأميركي. وفي المقابلة نفسها تتهكم هيلاري على أوباما بالقول إن الدول العظمى لديها مبادئ تنظيمية وجملة «لا تفعل حماقات وسخة» لا تشكل مبادئ تنظيمية. أما روبرت غايتس وزير الدفاع السابق في عهد أوباما الأول، فقد أصدر هو الآخر كتاباً ينتقد فيه سياسة أوباما الخارجية، خصوصاً في ما يتعلق بأفغانستان، بقسوة بالغة. فأوباما هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية لكنه لا يثق بجنرالاته وغير مؤمن بالخطة التي وافق عليها شخصياً ولا يعتبر أن الحرب حربه، وأنه لا يهتم إلا بالانسحاب، وإنّ قراراته مبنية على المصلحة الانتخابية بحسب ما جاء في الكتاب. أما وزير الدفاع الآخر في عهد أوباما، ليون بانيتا، فهو أيضاً أصدر كتاباً ينتقد فيه سياسة أوباما في العراق معتبراً أن الرئيس «فقد طريقه» وخلق فراغاً ملأه تنظيم «داعش»، وكان قد رفض النصيحة التي كان قد قدمها كبار مساعديه بمساعدة الثورة في سورية في بدايتها قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه. هذه الانتقادات جاءت من أقرب المقربين، ما أعطى انطباعاً واسعاً بين الأميركيين بأن أوباما بتردده وإهماله مسؤول عن وجود «داعش» وغير كفوء لقيادة أميركا في هذه المرحلة الصعبة، بما في ذلك الحرب على «داعش» التي أصبحت حاسمة في نظر الأميركيين بعد الانتشار الواسع لفيديو ذبح الصحافي الأميركي جايمس فولي ومن ثم ستيفن ساتلوف والرعب الجماعي التي خلقته هذه المناظر الوحشية في قلوب عامة الأميركيين. كيف ستتغير سياسة أميركا الداخلية والخارجية بعد أن أصبح أوباما، بحسب جريدة بيلد الألمانية، ليس فقط بطة عرجاء بل أيضاً منتوفة الريش؟ * السفير اللبناني السابق في واشنطن (غداً حلقة ثانية أخيرة)