هل ثمة حياة طبيعية؟ وفي حال وجودها، كيف يمكن تحديدها، وبالتالي بلوغها؟ وفي أية لحظة ينقلب الإنسان الطبيعي إلى مجرم؟ أسئلة يطرحها الكاتب الأميركي ريتشارد فورد ويحاول الإجابة عنها في روايته الأخيرة «كندا» التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار L'Olivier الباريسية وتشكّل شهادة مؤثّرة في قوى القدر التي لا هوادة فيها وتأملاً عميقاً في عدم واقعية «الحلم الأميركي». أحداث الرواية تقع عام 1960 في مدينة غرايت فولز الصغيرة (ولاية مونتانا) داخل عائلة أميركية من الطبقة المتوسطة تتألف من أربعة أفراد: الأب بيف بارسون وهو طيار حربي برتبة نقيب يفشل بعد تقاعده في العثور على عمل يمنح معنى جديداً لحياته ويؤمّن له الدخل الضروري لسدّ مصاريف عائلته؛ الأم نيفا التي تحمل هويتها اليهودية كعبءٍ وتلطّف عزلتها وكآبتها بممارسة الكتابة من حين إلى آخر؛ ومراهقان توأمان في سن الخامسة عشرة: بيرنر المتمرّدة والقوية الشخصية، وديل العاقل والشغوف بالدراسة وتربية النحل ولعبة الشطرنج والذي يؤدي دور الراوي ويشكّل الشخصية الرئيسة في الرواية. عائلة كلاسيكية وبلا مشاكل لن تلبث أن تنفجر تحت أنظارنا حين يقرر بيف، بعد تنقله داخل وظائف مختلفة، تحقيق مشروع لطالما حلم به، أي سرقة مصرف في إحدى المدن المجاورة. فعلى رغم نجاح العملية التي خطّط بيف لها ونفّذها بمساعدة زوجته، تتقفى الشرطة أثرهما بسرعة فيتم توقيفهما أمام أعين ولديهما ويرميان في السجن. ولتجنّب الدخول المحتّم إلى دار الأيتام، تهرب بيرنر مع صديقها رودي إلى كاليفورنيا وينتقل ديل، بمساعدة صديقة والدته، ميلدريد، للعيش في مقاطعة ساسكاتشيوان الكندية الباردة تحت رعاية أخيها أرثور ريملينجر حيث سيعمل في فندق هذا الأخير ويختبر العزلة والألم داخل محيط مليء بالعنف والقسوة. وتشدّنا هذه الرواية المسارّية بأسلوبها السلس وحبكتها الفضفاضة وتشييدها المحكّم وبمهارات كتابية وسردية كثيرة أخرى تفسّر عدم شعورنا بالملل داخل نصّ يتجاوز الخمسمئة صفحة ولا يتضمن في الواقع سوى حدثين رئيسيين: فعل سرقة البنك الذي يدمّر عائلة ديل ويفرّقه عن أخته التوأم، في القسم الأول منها، وعملية القتل التي يقوم بها أرثور ريملينجر أمامه، في قسمها الثاني. حدثان يتيمان لا تتجاوز مدة كل منهما بضع دقائق ولكن يقوم فورد بتشريحهما ومقاربة أبعادهما طوال الرواية مستخلصاً أمامنا كل معانيهما الممكنة. وتعكس هذه القراءة الغنية والمفصّلة لنتائج حدثَين صادمَين فهم الكاتب السيكولوجي العميق لما تمثّله مأساة في حياة مراهق بريء يفقد عائلته بين ليلة وضحاها ويضطر باكراً إلى مواجهة عنف العالم واختبار المنفى. لكن أهمية الرواية لا تكمن فقط في براعة فورد في سبر غور النفْس البشرية بل أيضاً في قدرته على رسم شخصيات ضائعة تبدو وكأنها تترنّح على طرف هوّة، وفي رسم أجواء منزل عائلي عادي أو فندق مشبوه يقع على حدود العالم بدقّة متناهية، وبالتالي في التقاطه تلك اللحظات القوية التي نعيشها وتبقى فاعلة فينا طوال حياتنا. وكان من الممكن أن تأتي هذه الدقة القصوى في إسقاط ديكور روايته وما يدور في خلد شخصيتها الرئيسة على حساب القصّة المروية التي تتقدم أحداثها ببطءٍ كبير، خصوصاً في قسمها الأول، ولكن حتى الصفحة الأخيرة نبقى محمولين بكتابةٍ رائعة قادرة على إرساء المناخات المرجوّة وعلى خدمة أهداف الروائي. يذكر أن عملية السرد التي يعتمدها فورد في نصّه لا ترتكز على عنصر التشويق الغائب كلياً فيه. فعلى رغم تسلسل الأحداث التي يرويها ديل بعد نصف قرن على حدوثها، مضيفاً عليها أخباراً من طفولته، ثم مسلسل حياته في منفاه الكندي ونتائج لقائه الحاسم بأرثور ريملينجر، فإنّ الصرح الروائي الفريد يرتفع بشكلٍ مدوخ عبر فيضٍ لا ينضب من الذكريات وتفاصيلٍ ملموسة وأدوارٍ ثانوية مدهشة، ولا يفرض ذاته على القارئ إلا كركيزة لتأملات عميقة يقودها الروائي بشكلٍ ثاقب وشبه خفي حول مواضيع مختلفة، كماهية السعادة أو طبيعة الحدود التي تفصل بين الخير والشرّ، وتلك التي تفصل، جغرافياً وأيضاً نفسياً، بين البشر، من دون أن ننسى العزلة التي نختبرها بقوة في الرواية من خلال معيش ديل الصعب. تأملات يكرّرها فورد ويعيد صياغتها من رواية إلى أخرى منذ أربعة عقود وتمنح البورتريه الواقعي والرمادي الذي يخطّه في كل مرّة لوطنه كل قيمته بعيداً من أي تشويه متعمَّد أو سطحية في التحليل السوسيولوجي المسيَّر داخل نصوصه. وما يسعى الكاتب إلى كشفه في روايته الجديدة، من خلال مسار عائلة بارسون، هو أن «الحلم الأميركي» لا يتعدّى كونه حلماً لا يمتّ إلى الواقع بصلة. فصحيح أن بيف المرح الذي وُلد في ولاية ألاباما، ونيفا المنحدرة من عائلة يهودية أوروبية والمنطوية على ذاتها يجسّدان جيداً بزواجهما الاختلاط العرقي (melting-pot) الذي لطالما افتخرت أميركا بتحقيقه، ولكن بسرعة يتبين لنا بأنهما لم يتمكّنا من تجاوز اختلافاتهما الكثيرة وبأن زواجهما محكوم بالفشل. وعلى صعيد آخر، لم تؤمّن خدمة بيف لوطنه كطيار سنين طويلة حياةً كريمة له ولعائلته بعد تقاعده، بل نراه مضطراً إلى مزاولة مهنٍ متواضعة مختلفة قبل أن ينزلق داخل تجارة غير مشروعة تجلب له المتاعب إلى عقر داره. وكذلك الأمر بالنسبة إلى زوجته التي ضحّت، بعد حبلها غير المتوقع منه، بحلمها في العيش حياةً بوهيمية مكرّسة لكتابة الشعر، ولم تقدها هذه التضحية سوى إلى الخيبة والتعاسة. وبقيامهما بسرقة بنك، تماماً مثل شخصيتي بوني وكلايد الشهيرتين، لم يتمكّنا من إنجاز شيءٍ آخر سوى الانضمام إلى صفّ ضحايا حلمٍ أميركي يستوعب الفرديات داخل طوباوية جماعية واحدة، وبالتالي يدفع بالأصالة إلى الهامش، وبالخاسرين إلى الجنون.