-1- حينما أخذتني الكتابةُ من غفوةِ اللامبالاةِ وانفتحت لي خزائن هذا الفضاء الذي لا حدودَ لَهُ قلت للكلمات: اتبعيني إلى سدرة المنتهى إن هذا مداري سأفتح نافذةً في جدار السماء وأخرى على حافة البحر ثم أشيّد أرضاً مكان التي افتقدت منذ حينٍ براءتَها. -2- قلت للأحرف النائيات: اقتربن سأجعل من جسد الكلمات قصوراً ليسكنها الفقراء وأجعل هذا الأثير حقولاً من القمح فاكهةً تتدلىّ، وأملأ هذا الفراغ المملّ موائدَ من فيض ما لذّ شَهداً، وأرغفةً، وشراباً طهوراً، وأدعو الجياع إليها وأمضي بهم نحو أرض البنوك وأطلب فتيانَهم أن يسدوا مداخلها ومخارجَها ويقولوا لكل النقود: وداعا. -3- كان ذلك حلمي غداةَ اصطفتني الكتابةُ خِدناً لها، بيد أنّ يديْ ارتعشتْ خذلتني أصابعها فتوقفت عن رسم خارطة العالم المشتهى. بكتِ الكلماتُ، وأجهش خوفي. ورافقني ضجرٌ كنت أعرفهُ قبل أن تصطفيني الكتابةُ. ناديتُ أهلي وصحبيَ، لا صوت قد جاءني أو أجاب ندائي سوى خوذةٍ لشهيدٍ عليها ثقوبٌ مدمّاةْ من خلفها يتعالى بكاءُ الأرامل والنادباتْ. -4- كل شيءٍ مُعَدٌّ هنا للفناء. الذبول يوشّح وجهَ المدينة والناس من خوفهم يهربون إلى الخوف. لا شيء يُنقذ أرواحهم! لا ملاذَ من الخوف إلاَّ إليه، ولا صوتَ يعلو على صوتهِ وحدَهُ من يهزّ المساءَ إذا جاء وحدَهُ من يهزّ النهار إذا جاء وهو الذي وحّد الكائنات وأخلى الشوارع من أهلها، من كلاب الأزقةِ من قططِ الليل من همسات العسسْ. -5- أنا لا أرى وطناً لا أرى غير أكوام ناسٍ على حافةِ القبر يقتتلون على ضِفدعٍ ميّتٍ لا خيولَ لهم، لا سيوف، انخذالاتهم تملأ الأرضَ حزناً، قياداتُهم، وجنرالاتهم هربوا قبل أن يخرج الفجر من رحم الليل، بل قبل أن يترقرق فوق سقوف البيوت صياح الديوك. حملوا كل ما خفّ من ذهبِ الأرض من فضةِ الشعب وانحدروا في بقايا الظلام. -6- سادتي، سيداتي من العرب الواقفين على حافةِ الأرض، ينتظرون جنازتَها لا تخافوا... ما الذي سوف تفتقدون إذا رحَلتْ خوفَكم؟ جوعَكم؟ وخلافاتِكم؟ أي شيءٍ أضفتم إليها حديثاً؟ ألا تخجلون؟ أنتم الفائض المزْدَرى كالخراف تنامون في مسلخ الانتظارْ. -7- لا أقول السلام عليكم فما عاد في هذه الأرض من يستحق السلام انطوتْ صفحةُ الأنبياء وما عاد في جنة الممكنات رجالٌ شغوفون بالحب والشعر، كل المسافات مقفرةٌ والجُناةُ خلا لهم الجو والروح غائرةٌ تتقيأ آخرَ أنفاسها وسط هذا الفراغ المميت، ولا وردَ ثمّ، ولا من حَمامٍ ولا من سلامِ.