كنت ولا أزال من المهتمين بنقد الثقافة الاجتماعية السائدة والفكر النقدي، ولهذا فأنا شديد الإعجاب بهذا الإصرار، الذي يبديه الشيخ إبراهيم البليهي على التوغل في النقد الثقافي، الذي حاوله عدد من أساتذتنا الأفاضل ولم يفلحوا. فهم كمن ظن أنه سيخوض أعماق المحيط، ثم اكتفى بالسباحة على الشاطئ، وأتمنى ألا يلحق بهم شيخنا إبراهيم، لأن نقد الثقافة الاجتماعية التي تغور في ثقافتنا نحن المثقفين، يجلب مكاره كثيرة، ويستدعي أموراً وعرة، أبسطها على سبيل المثال أن تستعمل السيارة «الإيكو» الصغيرة بديلاً عن السيارة «الأفالون»، أو أن تقوم بمراجعة الإدارات الحكومية أو حتى الأهلية من دون وساطات ومعارف كما حصل لي قبل بضع سنوات. وهنا ومن تجربة شخصية، أقترح على الزملاء الروائيين أن يخوضوا في البحار المُهلكة، فيستبدلون سياراتهم، وينسون وساطاتهم، ويكتبون رواياتهم المنتظرة. ليست الثقافة الغربية جوهر طروحات البليهي، فموضوعه الذي يحاوله منذ سنين هو التخلف وما يسميه علم الجهل الذي قاده إلى التمعن في مفهوم الثقافة، أو أن مفهوم الثقافة قاده إليه. أما محاضرة جامعة اليمامة حول الحضارة الغربية، فلم أحضرها ولكنني كنت قرأت قبل سنوات طويلة مقالات متوالية بصحيفة الرياض للبليهي عن الحضارة النوعية. وبعيداً عن الإشادة، وفي ما أذكر، كان لب المقالات بحسب قراءتي هو أن الحضارات السابقة للحضارة الغربية لم تتوصل إلى الفكر النقدي بل حاربته فاضمحلت. وأن سر تفوق الحضارة الغربية واستمراريتها وبالتالي كونها مختلفة تماماً عن سابقاتها وكونها نوعية هو تكريسها الفكر النقدي واعتدادها به. وأتقدم باعتذار للأستاذ إبراهيم وللقراء، كوني تجرأت على تبسيط جزء من بحث طويل يصل إلى سبع أو تسع مقالات طويلة من الذاكرة ومن دون الرجوع إليها، وهذا دليل آخر على عاهة ثقافية. ولكن ما أقصده أن البليهي لم يتعرض للتراث العربي الإسلامي في ما قرأته. أما في محاضرته الأخيرة في جامعة اليمامة، فلم يعط الفرصة لتوضيح موقفه. لا أدافع عن شخص إبراهيم البليهي ولا عن كل ما يطرحه، فلم يعد أحد في هذا الزمن يؤمن بعظمة الفرد الواحد وجبروته وانسياق الجميع من دون تبصر حول ما يقول وما يفعل، فهذا أمر لا يحدث إلا ضمن ثقافات وحضارات سادت ثم بادت كما قالت مجلة «العربي» قبل 50 عاماً. والدفاع أو الهجوم من دون تبصر تجاه ما يطرحه فلان من الناس ما هو إلا انسياق ضمن أيديولوجية عقائدية أو سياسية منغلقة (أي أنها ليست مكترثة بالتجربة والأسئلة والمعرفة وتراكم الخبرة البشرية كما هو حال جماعة الإخوان وجماعة بشار الأسد)، أو أنه انسياق وراء منافع شخصية خارج عملية المعرفة، أو أنه انسياق مع الخيل يا شقرا كما في ثقافات انقرضت أو شارفت على الانقراض. أساس ما يطرحه الشيخ إبراهيم البليهي يتكئ على «مفهوم الثقافة»، وكان كتب مقالات عدة بصحيفة الرياض عن مفهوم الثقافة. ومن تابع نشاطه وأراد فهم ما يطرحه يلاحظ غياب هذا المفهوم عن المشهد الفكري والثقافي والتعليمي والاجتماعي العربي وإفقاره وتعتيمه في شكل عجيب ومؤلم كما يتم الإفقار والتعتيم أو التهويل والتضخيم لكثير من المفاهيم في الساحة الثقافية والاجتماعية العربية. يكتب البليهي عن الثقافة الجمعية السائدة في المنطقة العربية متكئاً على المفهوم العلمي الدقيق البعيد عن أذهان غالبية المثقفين، فما بالك بغيرهم أي المفهوم الأكاديمي الإنثروبولوجي بمعنى: السلوك الجمعي وطرائق التفكير والعادات والتقاليد والممارسات العملية والذهنية المشتركة الخاصة بمجتمع معين.. إلخ، فهو مفهوم معقد ومركب، وأجدر مني بتناوله الأكاديميون وأهل العلم. إذاً فهو يتكئ على منطلق علمي، وسواء أنجح البليهي في كل ما يقوله أم بعضه، فإن ما يطرحه في هذه اللحظة من التاريخ المحلي والعربي هو نداء للعودة إلى العقل والضمير، لكي يتسق السلوك مع القيم النبيلة. ونقد الممارسات الذهنية والسلوكية الغوغائية هو نقد للثقافة الغائرة في أعماقنا شئنا ذلك أم أبينا. نستطيع أن نرى أثر الثقافة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والإنتاجية، وأن نقارن مدننا العربية بمدن في آسيا وأوروبا. فعلى سبيل المثال يتحرش قطيع من الشبان بخمس فتيات في مجمع تجاري بالظهران، ثم يلاحقونهن أمام الناس من دون أن يتحرك أحد! والأرذل من هذا تعليقات المبتهجين وتشجيعهم على ما حدث. بل إن هناك من الشيوخ من يبرر التحرش. يقول الدكتور عبدالواحد الحميد: «أجزم بأن هذا المنظر لا يمكن أن تجده في أي دولة في العالم! لن تجده في الدول التي نلعنها كل يوم لأنها كافرة، ولا في الدول الإسلامية التي نتهم مجتمعاتها بأنها مجتمعات تعشش فيها البدع والشركيات» الجزيرة - 26-10-2013. وعلى المستوى العربي نرى مثلاً ثقافة الأطراف المتصارعة على الأرض وهي تنعكس في مقالاتهم وطروحات مناصريهم على شاشة النت، وهي تكيل سيولاً من الأكاذيب والتلفيق والشتائم المخجلة والفذلكات الذهنية المضللة من دون خجل. ولا أجد سبباً غير ثقافي أو غير مافوي لبقاء بشار الأسد كشخص وتكرار عبارة إلى الأبد بعد كل هذا الدمار. يبدو لي المشهد الذي حصل في جامعة اليمامة بين البليهي والدكتور ابن حراث، وانسياق الطلبة كالقطيع أنه دليل إضافي على صحة ما يطرحه البليهي، فبداية رد البليهي كان حادا ويحسب عليه، ولكنه لم يبدأ إجابته بعد ليقاطعه الأستاذ الجامعي طالباً الرد على كلامه بانفعال وحدة أكثر ثم يهرب الدكتور ابن حراث، وكان الجدير به أن يكمل مداخلاته ويحاور، ومع إشارة من يد أحد الطلبة يحفزهم كي يخرجوا ثم ألوف المعلقين على شاشة النت ممن لا يعلمون جوهر المحاضرة. هذا كله يثبت صحة طروحات إبراهيم البليهي عن الثقافة الجمعية في العالم العربي، وكونها سبباً من أسباب التخلف والجهل، وبالتالي في فشل التنمية وفي التناحر والتقاتل وفي التدين المتضخم الذي يجعل الناس أبعد ما يكونون عن جوهر الدين. * شاعر سعودي.