يبدو أن القدر أبى ألا تنتهي هذه السنة، إلا بأفول نجم ثالث في سماء الكاريكاتور المصري، وهو الفنان أحمد طوغان شيخ الكاريكاتوريين المصريين والذي غيبه الموت في القاهرة. والتحق طوغان باثنين من رموز هذا الفن كانا قد فارقا الحياة أيضاً مطلع العام، وهما مصطفى حسين والكاتب الساخر أحمد رجب الذي ربطته علاقة وثيقة بفن الكاريكاتير من خلال مشاركته لرفيق دربه مصطفى حسين في ابتكار العديد من الشخصيات الكاريكاتورية الشهيرة، والتي قدماها معاً على صفحات جريدة الأخبار المصرية. توفي أحمد طوغان عن عمر يناهز ال 88 سنة في مستشفي المعادي العسكري الذي نقل إليه بطلب من رئيس الجمهورية على أثر تفاقم حالته الصحية. كان طوغان يستند إلى تجربة حياتية وفنية ثرية امتدت منذ أربعينات القرن العشرين وامتلأت بكثير من الأحداث المهمة التي عايشها عن قرب. وذلك بداية من علاقته بالرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي التقاه في شبابه على أحد مقاهي القاهرة إلى معايشته المُبهجة واحتفائه ب»ثورة يناير». وربما مثلت تلك العلاقة المبكرة التي جمعته بالرئيس السادات سبباً في مشاركته في تأسيس جريدة «الجمهورية»، والتي ترأس تحريرها السادات قبل أن يتولى الرئاسة في ما بعد. ولا تتوقف الحكايات والمصادفات التي شكلت معالم تجربته، إذ قادته المصادفة أيضاً إلى التعرف إلى أحد شباب المقاومة الجزائرية في القاهرة، وكان يقوم بطباعة إحدى الصحف التابعة للمقاومة وإرسالها لتوزع في الجزائر. شارك طوغان برسومه في تحرير تلك الصحيفة الجزائرية، وقادته تلك العلاقة مع المقاومة إلى السفر إلى الجزائر، حيث عايش معاناة الشعب هناك تحت نير الاحتلال الفرنسي وتعرف إلى رموز المقاومة الجزائرية ومدى إصرارها وشراستها في مقاومة المحتل. التقى طوغان في شبابه العديد من الشخصيات المؤثرة، من بينهم المناضل تشي غيفارا وربطته علاقة وطيدة بعدد من الشخصيات السياسية والأدبية المصرية منها الكاتب الساخر محمود السعدني الملقب بالولد الشقي، والذي لم تنقطع علاقته به حتى وفاته. شخصيات وحكايات وأحداث كثيرة عايشها طوغان خلال تجربته وظلت حبيسة في ذاكرته إلى أن أفرج عنها في كتابه الذي يحكي سيرته، والذي صدر أخيراً عن الدار المصرية- اللبنانية للنشر تحت عنوان «سيرة فنان صنعته الآلام». ولد أحمد طوغان في عام 1926 في محافظة إلمنيا في صعيد مصر، وبدأ تجربته مع الرسم بالشخبطة على الجدران، ومنها إلى عالم الصحافة بعد انتقاله إلى القاهرة وتعرفه على صديقه محمود السعدني الذي نصحه بنشر رسومه في إحدى الصحف. تنقل بين صحف مصرية وعربية عدة، إلى أن استقر في جريدة «الجمهورية» التي كانت شاهدة على الجزء الأكبر من تجربته. لم يسلم طوغان من مناكدة نظام مبارك له، فقد منع من الرسم على صفحات جريدته بحجة إعطاء الفرصة للأجيال الجديدة، بعد إعلان اسمه على قوائم رسامي الكاريكاتور المعادين للسامية، ولكنه عاد مرة أخرى إلى مزاولة عمله بعد قيام ثورة يناير التي أعطته الأمل من جديد كما كان يقول دائماً. تميز أسلوب طوغان بالاهتمام بأدق التفاصيل، والتمعن في رصد العديد من النماذج الإنسانية والمفردات المتداولة على ألسنة الناس في الشارع والبيت والمقهى والمصنع والحقل. وما بين تغير التركيبة الاجتماعية وما طرأ عليها من تغير مماثل للمفردات تتجول بنا أعمال الرسوم الكاريكاتورية لأحمد طوغان، كوثيقة بصرية وثقافية بالغة الثراء والأهمية. ونجح طوغان عبر تجربته الممتدة في رصد كل هذه التحولات عبر رسومه بأسلوب لا تنقصه الفكاهة، ولا يخلو من السخرية اللاذعة أو الموجعة في كثير من الأحيان. رسم الأفندية وأبناء البلد والفلاحين والباشاوات والباكوات والصعاليك واللصوص وأجواء السياسة ومفردات اللغة الشائعة وغيرها من التفاصيل الأخرى التي سجلها بريشته في صياغات ساخرة. واللافت في أعماله، أنك لا تستطيع العبور أمامها سريعاً لروعة بنائها وثراء مضمونها وقدرته على التعبير والتأثير في المشاهد، ما يدفعك إلى معاودة تأملها مجدداً. وتمثل رسومه شاهداً على تغير مناخ الحياة والسياسة المصرية عبر سنوات وعقود مليئة بالأحداث والتحولات.