نجح النظام السوري في ما سعى إليه منذ البداية من تصوير الثورة على أنها الإرهاب بعينه، وأنّ القائمين بها ليسوا سوى مجموعات إرهابية تسعى للقيام بأعمال إجرامية ضد النظام ومؤسساته وضد المواطنين والاستقرار في شكل عام، وتلك صورة مغايرة بالتأكيد لما جرى في الأيام الأولى للثورة، بل إن النظام كان يسعى لإطلاق المجموعات التي كان يجندها عبر أجهزته الأمنية والاستخباراتية، للبروز في مقدمة المشهد، كي يصدق الناس مزاعمه عن الإرهاب والإرهابيين، وها هم هؤلاء وغيرهم، ممن يطيب لهم «هوى الإرهاب» يستجلبون أمثالهم من إسلامويي الخارج، يعمدون اليوم لخلط حابل الثورة بنابل الإرهاب، لتصب نتائجها لمصلحة طاحون الاستبداد القوموي النظامي، على أمل أن تصب في الغد لمصلحة طاحون الاستبداد الإسلاموي الديني، الآخذ أبعاداً متغولة في عهدة «ربيع عربي» تحول في شكل «ناجز» إلى خريف إسلاموي لم يستطع أن يستقيم حاكماً في أي بلد طاولته سيوف سلطته، فخرج سريعاً من السلطة، وها هو ينهي أي نمذجة إسلاموية يمكن احتذاؤها من قبل أي قوى إسلاموية جديدة، بعد أن انكشفت كل أوراق الإسلامويين ومرجعياتهم في السلطة من قبل ومن بعد. لهذا من الصعب أن تستمر الثورة على وتيرة ما كان من أهدافها ومنطلقاتها الأولى، في ظل ما بات من هيمنة واستحكام قوى التفتيت والتشرذم، التي هي كالنظام، لا تقيم وزناً ولا قيمة لوطنية سورية، أو هوية قومية، أو أي خصوصية جهوية أو مناطقية أو إثنية، بقدر ما يستوي هاجسها الرئيس على تصنيع هوية مذهبية/أممية متعالية فوق خصائص التاريخ والجغرافيا، وخصوصيات البيئات المحلية، حيث يجري فرض تحالفات شبيهة بنموذج «طالباني» جرى تصنيعه ونمذجته في أفغانستان وباكستان. ويراد اليوم قيام أشباه له في سورية، بعد أن استوى قيام نموذج له في العراق من قبل، وفي غيرها من مناطق النزاعات والحروب الأهلية في ما بعد. ما يجري اليوم في سورية، وهذا ما أمكن ملاحظته منذ أكثر من عام، أن عدم الحسم والقطع الغربي وتكتيكات العلاقات مع بقية قوى النظام الدولي وفي مقدمها روسيا والصين، قد أطالت أمد الثورة وساهمت في شرذمة وتفتيت قواها، وأخرت إمكانية اتفاقها على أهداف موحدة، من قبيل الاتفاق على المشاركة في مؤتمر «جنيف 2» من عدمه، ولحد الآن ما زال تقطيع أوصال الثورة يتم بالقطعة، وينتقل من منطقة إلى أخرى، وصولاً إلى اللحم الحي لثورة يجري إجهاضها، والنكوص بها نحو إحياء الغرائز كلها – قديمها والجديد – إلى درجة يمكن القول معها إن ما يجري اليوم في سورية، قد لا يتعدى عملية تغيير للثورة، بعد أن كان الهدف الرئيس وسيبقى تغيير النظام. لقد استجلب النظام بسلوكه وممارساته، وعلى هامش الثورة والحراك المدني السلمي والديموقراطي، «بدائل» وحشية وإجرامية، أملت وتأمل أطرافها أن تكون هي البديل العملي للنظام، وها هي توغل تقطيعاً ونزفاً في الجسد السوري، وهي قوى لا تشكل أكثر من نسخ شائهة لنظام قام على تشوهات قوموية، ما زال البعض يحاول عابثاً تحسينها وتجميلها، من دون الاستفادة من خبرات وتجارب أثبتت الحياة ونظريات الفكر السياسي، أنها أكثر من ميتة، بل إن سلطة تقوم على استبداد مقيم ومغال في مسلكياته الراسبة والظاهرة، لا يمكنها أن تتحول أو تقيم إصلاحاً فات زمنه، واندثرت أسسه، ودمرت جميع قواعده حتى المفترض إنها راسخة. لهذا فإن ما يجري على جبهة الصراعات الدموية التي افتتحتها القوى الإسلاموية، وستمضي بها حتى تحقيق الغلبة لها، و «مقاسمة» النظام التصدي للقوى المدنية والديموقراطية، محاولة مستجدة لحرف الثورة والنكوص بها، وتغييرها بدلاً من العمل على تغيير النظام، وهنا المأساة السورية التي لن ينفع في معالجتها لا «جنيف 2»، ولا غيره من محاولات التصدي للأزمة السورية سياسياً، بدلاً من المضي في محاولة معالجتها عسكرياً. * كاتب فلسطيني