كان ثمة استخفاف، قبل الثورة، بالمخاوف من انزلاق مسار التغيير في سورية نحو النموذج العراقي، فالبلدان يخضعان لسلطة حزب «البعث» ذاته وتتشابه فيهما التركيبة السكانية بتنوعها القومي والديني، وكان ترداد عبارة «أن سورية ليست العراق» يكفي لإثارة طمأنينة تتوسل أفكاراً عن الفرادة السورية وخصوصية تبلور هويتها الوطنية. كان سهلاً مثلاً، تقبل اندلاع حرب أهلية ضروس في عراق لم تهدأ الصراعات العنيفة بين مكوناته، وشهد تاريخه السياسي محطات دموية، ويضرب المثل بآليات حكمه الشرسة والوحشية، بدءاً من الحجاج إلى صدام حسين، بينما كان صعباً توقع اقتتال داخلي في سورية لأسباب قومية أو دينية. فقد تعايشت هذه المكونات بسلام لعقود طويلة ولم تجترحها نزاعات عنيفة أو إقصائية، مثلما كان غريباً أن تعرف سورية هذا الإفراط المرعب في الفتك والتنكيل، وهذه الاستباحة للحياة الإنسانية واسترخاص أرواح البشر، وكأن الصراع ليس بين أبناء الوطن الواحد، والأغرب دفعه إلى صراع وجود وإفناء للآخر، تحدوه قسوة شديدة خلّفت خراباً لا يوصف، وأعداداً ما فتئت تتزايد من الضحايا والمنكوبين والمشردين. ورفضاً للتشبه بالعراق، كان الحديث عن فرص نمو التطرف الإسلاموي في سورية يواجه بمقولة «الإسلام الشامي المعتدل» الذي لا يعرف التعصب والعنف ويتميز بالقدرة العالية على التكيف ربطاً بميله المزمن نحو النشاطات الاقتصادية والتجارية على حساب الطموح السياسي، في حين نلمس اليوم حضوراً، في صور وأشكال متنوعة، للتشدد الإسلاموي في المشهد السوري يضاهي حضوره في العراق، منتزعاً وزناً كبيراً ومقرراً في مجرى الصراع، ومهدداً مشروع التغيير والهوية الوطنية الجامعة. في ما مضى، أصبحت فكرة تقسيم العراق على كل شفة ولسان، كأنها حدث على وشك التحقق، واستسهل كثيرون الطعن بقدرة الشعب العراقي على تجديد تعايشه وفق أسس دستورية تحفظ حقوق الجميع، بينما لم تكن تخطر في بال أحد فكرة تقسيم سورية العصية «بوحدتها الوطنية» على التفكك، إلى أن صارت قيد التداول اليوم كاحتمال قائم، أو لأنها فرضت عملياً على الأرض جراء تخندق المتصارعين وراء أوساطهم القومية أو الطائفية. جاء التغيير العراقي بيد «عمرو» وصاروا محط رفض وتنديد أولئك الذين وصلوا إلى السلطة على ظهر الدبابات الأميركية، في المقابل كان ثمة إيمان شبه مطلق بأن بلداً كسورية مع عمق ارتباطها بالهم الفلسطيني وتطلعها إلى تحرير أرضها المحتلة وغلبة الأحزاب الوطنية والقومية على مشهدها السياسي، لن تصل يوماً إلى قبول تدخل خارجي في شؤونها، ليستحق السؤال اليوم، عما يقال عن سعي كل أطراف الصراع السوري إلى تعزيز مواقعها باستدراج الأجنبي، وصل في مراحل إلى استجرار الدعم المباشر، كما حال النظام وحلفائه، وكما مد المعارضة بالسلاح ودعوتها إلى فرض حظر جوي أو منطقة آمنة، وما أظهرته من حماسة وتشجيع رافقا فترة التهديد الغربي بضربة عسكرية ضد النظام السوري... وكأن ما نراه اليوم هو قلب للمعادلة الشائعة وإقرار صريح من الجميع بأن التغيير بفعل الداخل أصبح من الماضي. ومهما عانى السوريون وكابدوا يبدو أن مسار الصراع في بلدهم لم يعد بأيديهم، وبِتَّ تسمع من يندب حظ الثورة السورية السيء لأنها تزامنت مع التردد والسلبية لدى أميركا، مقارنة مع ما يعتبره حسن حظ العراقيين الذين اتكأوا على السياسة التدخلية للمحافظين الجدد لإزاحة الديكتاتورية المتمرسة عن كاهلهم، وشق طريق التغيير أمامهم، مع ما يكتنفه من تعقيدات وصعوبات. وهل سأل أنفسهم من كانوا يعوّلون على عراقة الشعب السوري وحضارته الزاخرة بالتسامح والتعايش، أي ثمار قطفوا وهم يرون بأم أعينهم كيف يمزق العنف والإقصاء واستدراج الخارج النسيج الاجتماعي، وكيف تغدو أحاسيس الفخر والكرامة الوطنية، الشيء الأكثر تعرضاً للسخرية والاستباحة؟ يمكن القول أن هدف هذه المقاربة بين المسار العراقي والحالة السورية، هو مرة لإنصاف العراقيين مما اتهموا به ومراجعة نقدية لتوصيفات مغرضة طاولت مواقفهم واجتماعهم الوطني، ومرة لتوضيح حجم العقبات التي تقف في وجه التحول الديموقراطي في بلداننا المشرقية، بتعددية مكوناتها وبسبب طابع السلطات الاستبدادية التي حكمتها لعقود ولم توفر أياً من وسائل القمع والفتك إلا واستخدمتها لإجهاض التغيير ولتجفيف منابع السياسة ومحاصرة المجتمع المدني، ما خلق حالاً من العجز الذاتي لقيادة التحول الديموقراطي مازال يسم الحراك الشعبي ونهج المعارضة السياسية... ومرة ثالثة لتعرية المشهد السوري بما يكتنفه من مكابدة ومعاناة وآلام، وبما يتطلبه من جهود عاجلة وملحة لوقف دوامة العنف ولإخراجه من صراع مدمر يزداد استقطاباً وإقصائية وينذر بتحويل المجتمع الواحد إلى فئات متنابذة وجبهات متناحرة. ويصح إرجاع المحنة السورية وما أسفرت عنه من عناصر تحاكي التجربة العراقية في التطرف و «الأسلمة» والقتال الأهلي والتدخلات الخارجية إلى عنف النظام المفرط وإنكاره الأسباب السياسية. ويصح إرجاعها إلى طول أمد صراع دموي أخرجَ من جوف مجتمع مغيَّب الأسوأ والأكثر تخلفاً وبربرية، لكن ذلك لا يبرر تبلور موقف مقابل يستمد من وحشية الآخر وقسوته العذر للتطرف والعنف، إلى درجة يغدو فيها هذا الخيار المعزز للكراهية والحقد فعلاً إيجابياً يستحق الإشادة وليس رد فعل خاطئاً يستدعي التجاوز. نعم، قد يفضي تصاعد العنف إلى انزياحات واسعة وأحياناً انهيارات في منظومة القيم الديموقراطية والمبادئ الوطنية، بخاصة مع تنامي قوى متطرفة تتعمد محاربة هذه القيم والمبادئ وهتكها بكل السبل. وقد يهدد تعميم منطق القوة والسلاح، اللحمة الوطنية وأسس العيش المشترك، ويدفع الصراع إلى مجال ما قبل سياسي وما قبل مجتمعي، لكن، من الوهم التطلع إلى تجاوز هذه المحنة وإحياء قيم الثورة من دون تبديل ذاك المسار، ولا يمكن بغير وقف العنف وإزاحة أصحابه، البدء بتذليل الصعوبات والتعقيدات التي تعترض صوغ عقد اجتماعيّ ديموقراطي جديد.