عاد الدكتور عبدالعزيز خوجة من لبنان مودعاً ذلك البلد الذي أحبه وأحب كل ما فيه ومن فيه، وأعلن حبه نثراً وشعراً، وعبّر عن هذا الحب بصدق وإخلاص وعمل صالح من أجل هذا الجزء الغالي من وطننا العربي الكبير، وكأني به وهو يودّع لبنان يتمثل بقول الشاعر: ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة واني لا أودعه ودّع لبنان... وكان وفياً وشجاعاً وأميناً في التعامل مع الأحداث، وعاد عوداً حميداً، وخرج خروجاً مشرّفاً. بقي الدكتور عبدالعزيز تحت وابل الرصاص حتى أنجز المهمة وأتم الأدوار المشرفة التي تصدى لها، وكُلّف بها، ووقف ينادي الجميع ويتنقل بين كل قصر وقصر للحكومة والمعارضة، ليعلن لهم أن المملكة العربية السعودية يهمها استقرار هذا الوطن العزيز، وأن ما يهمنا هو توحيد صفوفهم وسلامة وطنهم. ثم عندما عظمت الكارثة وتفلت الأمر وتطاير الرصاص لم يهرب ولم يرحل، بل وقف حتى أمّن أولئك الناس الأبرياء الذين أحاطت بهم الأزمة وأفقدتهم الأمل في الخروج من ذلك المأزق، وشمّر عن ساعده ومدّ يده إلى طفل يمسكه، وأرملة يعطف عليها، وأسرة يؤمّن لها الطريق والرفيق ويحميها حتى تصل إلى بر الأمان. بل أبقى أبواب السفارة مفتوحة، وهي السفارة العربية الوحيدة التي لم تقفل يوماً واحداً خلال تلك الأحداث، وتابعت السفارة عملها بجانب المواطنين اللبنانيين، لتسهيل منح التأشيرات لهم لزيارة ذويهم في المملكة، مبدياً تعاطفه مع الشعب اللبناني والبقاء بجانبه في السلم والحرب، وعدم كف اليد عن أي مساعدة يمكن تقديمها لهم. فقد حاول جاهداً ونجح في كثير من الأحيان في تقريب وجهات النظر بين القادة السياسيين في لبنان من المعارضة أو من الموالاة، محافظاً على سياسة المملكة التي تقف على مسافة واحدة من جميع القيادات السياسية في لبنان. حتى فرح خادم الحرمين الشريفين وولي عهده بمواقفه هذه، وتمّ رحيل الناس في أمان مكرمين معززين، ومما أثر في نفوسهم وفي نفوس أهاليهم أنه لم يكتف بتوفير الراحلة، وإنما قام بنفسه بتأمين الطريق والتعاون مع الجميع لضمان سلامة أولئك الناس وأهلهم وأطفالهم. ونجح عبدالعزيز خوجة في أكثر من موقف، لأن الزعماء كانوا يشعرون بصدق الرسالة التي كان ينقلها من حكومته، وتحركات هذا السفير كانت ترجمة لمشاعرنا كحكومة وشعب نحو هذا الوطن العزيز، لأن لبنان يمثل لنا نحن هنا في المملكة العربية السعودية أهمية كبرى، فإن أمنه وسلامته واستقرار الأوضاع فيه كانت هاجساً دائماً بالنسبة إلى حكام هذه البلاد منذ الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - وحتى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. ذلك أن لبنان التاريخ ولبنان المكان ولبنان الحضارة والتنوع، ولبنان الإنسان يمثل رئة الوطن العربي، وأحد أبرز مصادر النور والإشعاع الفكري ومناخ الديموقراطية، وبالتالي فإن كل من فيه وما فيه يهمنا ويدفعنا للوقوف إلى جانبه في كل وقت، ولعلنا نتذكر ما بذلته المملكة من جهد كبير لإخراج لبنان من نفق الحرب الأهلية المدمرة، حين سعت بكل إخلاص وتفان إلى التأليف بين طوائفه وفئاته للخروج به من كارثة الحرب، وإعادة تأهيل البلاد من جديد، وعودة الحياة الطبيعية إلى مختلف أرجائه، وإقرار صيغة التعايش والتآلف والتجانس بين طوائفه، التي جرت في الطائف عام 1989، ليعيش لبنان منذ ذلك التاريخ ويعود إلى حياة هانئة ومستقرة، ويسهم بصورة فاعلة في خدمة قضايا أمته وإعلاء شأنها. تذكرت كل هذا وأنا أتابع لقاءات التوديع التي قام بها أخي الدكتور عبدالعزيز خوجة لكبار المسؤولين اللبنانيين بعد سنوات حافلة من العمل المخلص البنّاء سفيراً للمملكة العربية السعودية هناك، فكان خير سفير لوطن ينشد الخير والسلام والأمان لكل الأوطان العربية والإسلامية. خرج الدكتور خوجة ولم يكن له خصم في كل لبنان، إذ عبر الجميع عن تقديرهم الجم له بتوديعه بحفاوة عربية أصيلة واحترام هو أهل له وجدير به. عاد الدكتور عبدالعزيز خوجة هذا العاشق للبنان والذي كان يتغزل على جوانب الروشة وجبال الأرز، فمرحباً بالسفير وعوداً مشرفاً، والحق اننا كنا جميعنا بقلوبنا معهم في لبنان، وانني لأذكر مواقف الملك خالد رحمه الله يوم كان يتألم ويحزن لما أصاب لبنان حتى قال قولته المشهورة: «إن الدم العربي الزكي الذي يجري على ارض لبنان وحملات المهاترة والتشهير التي تطلقها وسائل الإعلام العربية ضد بعضها البعض تثير المرارة والألم في نفس كل عربي مخلص لدينه وعروبته ووطنه». وحدد يومها رحمه الله موقف المملكة العربية السعودية وقال: «إنّا نتساءل جميعاً وبحرقة واسى عن الأسباب التي تدعو لمثل هذا الاقتتال وهذه المهاترات الجارية بين الإخوة الأشقاء، وعن الفائدة التي سوف يجنيها لبنان الشقيق بعد ما حل به من الدمار»، وقال الملك خالد رحمه الله: «ان المملكة العربية السعودية تناشد جميع الإخوة إيقاف هذا النزيف الدموي في لبنان». وكان كل هذا يؤكد على موقف المملكة التي أصبحت منذ 1976 قوة مؤثرة على المسرح اللبناني من منطلق اهتمامها بسلامة لبنان وأهل لبنان، وهكذا واصل الملك عبدالله بن عبدالعزيز اليوم الاتجاه نفسه والذي قال: «إنني أتألم لما وصل إليه هذا البلد العزيز لبنان الذي كان يضرب به المثل في التعايش والازدهار ويقف الوطن مشلولاً عن الحركة وتتحول شوارعه إلى خنادق وتوشك الفتنة أن تكشر عن أنيابها فيه، وتدمر أهله وتقضي على الأخضر واليابس». وترجم الصديق الدكتور عبدالعزيز خوجة حبه للبنان ودعوته لجمع الكلمة عندما صدح بقصيدته الرائعة لبنان عد أملاً فقال: لُبنانُ في قَلبِنا نارٌ تُؤَرِّقُنا خَوْفاً على بَلَدٍ قد عزَّهُ الأَزَلُ لُبنانُ أرضُ الحِجي هلْ للحِجَى أجَلٌ قد حانَ في جَدَلٍ أم جَاءَنا الأَجَلُ كأنَّ لُبنانَ لا أرْضٌ ولا نَسَبٌ وأهلُ لُبنانَ مِنْ لُبنانَ قَد رَحَلوا جُرْحٌ على الأملِ المكسورِ يَنْحَرُني لُبنانُ عُدْ أَمَلاٌ فالجُرْحُ يَندَمِلُ يا ساسَةَ البَلَدِ المُستَنْجْدِ اتَّحِدوا هَذي بلادُكُمُ والسَهْلُ والجَبَلُ لُبنانُ إنّي على عَهْدِي رَفيقُ هَوَى مهما يَطُلْ بُعدُنا فالجَمْعُ يَشْتَمِلُ وكأنه يشكو لبنان إلى نفسه عندما قال: لُبنانُ يا أَمَلاً ما زِلتَ موئِلَهُ لُبنانُ يا شامِخَ الهاماتِ يا بَطَلُ هَذي هيَ الأرْزَةُ الشَمَّاءُ دامِعَةٌ هذا هوَ الجَبلُ العِملاقُ يَنْفَعِلُ هذا هو السَهْلُ في أكْنافِهِ نَضَجَت أرزاقُ خَلْقٍ وقد ضاقَتْ بهم سُبُلُ كان الدكتور عبدالعزيز يملك نظرة ثاقبة في السياسة اللبنانية، وقراءة مميزة لها فاقت العديد من السياسيين اللبنانيين، كما كان يملك علاقة مميزة جداً مع الفرقاء اللبنانيين كافة، والكل يقدره ويحترمه ويتشاور معه في قضايا لبنان الداخلية، والأهم من ذلك أيضاً العلاقة المميزة مع الإعلاميين. وهذه العلاقة ساهمت بشكل فعال في إبراز دور المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين في إعمار لبنان وحل قضاياه ومساعدة شعبه النبيل، واستطاع من خلال علاقته الجيدة بالإعلاميين احتواء العدد الكبير من الصحف والتلفزيون والمجلات وحتى الكتّاب الذي يتعرضون للمملكة بسبب أو من دونه. فمرحباً بك يا سفير، وبيوم عودتك الكبير، شامخاً أبياً، وعودة مشرفة، وخروجاً كريماً بعد أن أديت الواجب، وحملت المسؤولية، ومثلت حكومتك ووطنك وكل محب للبنان يدعو لك. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. * كاتب سعودي.