ظلت الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» (1912- 1998) ملء السمع والبصر على امتداد ثلثي قرن من الزمان، برزت خلالهما مفكرة إسلامية وأكاديمية مرموقة. ووفقاً لسيرتها الذاتية الصادرة أخيراً تحت عنوان «على الجسر... بين الحياة الموت» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، فإن «بنت الشاطئ» نشأت في بيت علم ودين وفضل وتصوف، فوالدها الشيخ محمد علي عبد الرحمن كان عالماً أزهرياً، وكان يمتلك مكتبة ضخمة تزخر بأمهات كتب التراث العربي والإسلامي. التحقت «بنت الشاطئ» بقسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة القاهرة وحصلت على ليسانس اللغة العربية عام 1939، وتلقت العلم على أيدي عدد من أبرز مفكري مصر في تلك الحقبة الزمنية، وفي مقدمهم طه حسين الذي ناقش أطروحتها للدكتوراه، وأمين الخولي الذي تزوجها وأنجبت منه ثلاثة أبناء، وأحمد أمين، وفيلسوف الأخلاق عبد الوهاب عزام، ومصطفى السقا الذي أعفاها من حضور دروسه في اللغة والنحو؛ نظراً الى ارتفاع مستواها العلمي عن مستوى زملائها وزميلاتها. وتابعت «بنت الشاطئ» دراستها، فحصلت على الماجستير عام 1941 عن بحثها عن «الحياة الإنسانية في أدب أبي العلاء المعري»، ثم حصلت على الدكتوراه عام 1950 عن بحثها «الغفران... دراسة نقدية» مع تحقيق نص «رسالة الغفران». ودراستها لشعر أبي العلاء ونثره في هذه المرحلة الباكرة من حياتها ساهمت مع ما قرأت في مكتبة أبيها، وما سمعت من أفواه أساتذتها، في إعطائها تلك الخصوصية اللغوية والأسلوبية التي تميزت بها. وعن تأثرها بالشيخ أمين الخولي تقول: «ظل لمدى ثلث قرن يقود خطاي على الطريق الشاق، ويحميني من عثرة الرأي، ومزالق التأويل وسطحية النظر، ويأخذني بضوابط منهجه الدقيق الصارم الذي لا يجيز لنا أن نفسر كلمة من كلمات الله تعالى من دون استقراء لمواضع ورودها بمختلف صيغها في الكتاب المحكم، ولا أن نتناول موضوعاً قرآنياً أو ظاهرة من ظواهره الأسلوبية من دون استيعاب لنظائرها، وتدبر سياقها الخاص في الآية والسورة، وسياقها العام في القرآن كله». وكان الخولي يدرّس علوم القرآن لطلاب كلية الآداب عام 1936، وكانت عائشة عبد الرحمن من طالباته، وعندما اقترح على الطلاب أن يقوموا بعمل أبحاث في موضوعات بعينها حددها لهم في علوم القرآن، وتعجلت عائشة واختارت موضوع نزول القرآن مزهوة مغرورة بما حصّلت على يد أبيها وفي مكتبته الزاخرة، حتى أنها لم تطلب لإتمام إنجازه إلا يوماً واحداً، أو بعض يوم، كانت المواجهة، وكان اللقاء الذي كفكف فيه الشيخ من غلواء غرورها، ووضع فيه خطاها على أول الطريق الصحيح، طريق القراءة المنهجية الواعية التي تفرق بين مصادر الموضوع ومراجعه، وتعرف كيف تستطيع أن تستخدم هذه وتلك في خدمة موضوعها. عملت «بنت الشاطئ» أستاذة للتفسير والدراسات العليا في كلية الشريعة في جامعة القرويين في المغرب لمدة عشرين عاماً، ومن أبرز مواقفها دعمها لحقوق المرأة في التعليم والحقوق والواجبات، ورفضت التفسير العصري للقرآن الكريم حفاظاً على التراث من الذوبان في إيقاع العصر، كما حاربت النزعة البهائية وكشفت عن ارتباطها بالصهيونية العالمية. وتركت «بنت الشاطئ» عشرات المؤلفات في الكثير من فروع العلم اللغوية والأدبية والفقهية والتاريخية، منها «التفسير البياني للقرآن الكريم، القرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة». وفي مجال التحقيق قدمت «الخنساء شاعرة العرب الأولى، مقدمة في المنهج، قيم جديدة في الأدب العربي»، فضلاً عن كتاب «بطلة كربلاء» عن السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، و «سكينة بنت الحسين»، «مع المصطفى»، «أم الرسول محمد... آمنة بنت وهب»، «رحلة في جزيرة العرب»، «أرض المعجزات»، «أعداء البشر». وكتابها «على الجسر... بين الحياة والموت» الذي يعد سيرة ذاتية كتبته بأسلوب أدبي مشوق. وحصلت «بنت الشاطئ» على الكثير من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية من مصر عام 1978، وجائزة الأدب من الكويت 1988، وجائزة الملك فيصل العالمية في الآداب مناصفة مع الدكتورة وداد القاضي عام 1994. وانتقلت إلى جوار ربها يوم الثلثاء 11 شعبان 1419 ه - أول كانون الأول (ديسمبر) 1998 عن عمر يناهز 86 عاماً بعد رحلة حافلة بالعطاء العلمي في الدراسات العربية بعامة، والقرآنية بخاصة.