متغلباً على رغبتي في ركوب «توكتوك»، قررت السير من محطة العرب في جسر السويس، حتى منزلي في شارع أبو الفتوح عبدالله، رغم طول المسافة وثُقل حقيبة اللاب توب، وإجهادي، وشعوري بالجوع. كُرهي للتكاتك له ما يبرره إذا ما علمت أنني تركتُ شقتي في شبرا الخيمة، هرباً منها، لاجئاً إلى عين شمس في سنة 2007، وقتها لم يكن للتوكتوك وجود في شوارع الحي، فالأهالي كانوا يستخدمون، في تنقلاتهم الداخلية، «سيارات ملاكي»، يعلق عليها أصحابها لافتة «للأجرة»، أما الآن فأصبحت الصورة مشابهة تماماً لما هي عليه الحال في شبرا الخيمة. ربما لانتهاء رمضان والعيد، كانت حركة الناس والسيارات والتكاتك قليلة في شارع مصطفى حافظ التجاري الشبيه بشارع العريش في الهرم، فارتحت لقرار المشي، ولعنت التكاتك وأصحابها في سري، فجاء رد أحدهم علنياً، عندما اعترض على المساحة التي اتخذتها لنفسي في الشارع، فبعد أن تخطاني نظر إليّ باستهانة قائلاً: «كشكشها يا باشا شوية»، ثم انطلق مطمئناً إلى استحالة لحاقي به، فابتلعت إهانتي مضطراً، وواسيت نفسي باحتمال أن ألقاه مرة أخرى في أي شارع، فإن لم تكن ذاكرتي احتفظت بملامحه جيداً، فالعبارة المكتوبة على ظهر التوكتوك كانت واضحة تماما: «كلها بقت أبطال». واصلت السير بخطى منتظمة، حاولت إبطاءها عندما رأيت الظلام يخيم على شارعي، متمنياً أن يتزامن دخولي الشقة مع عودة الكهرباء، مثلما حدث أمس، فتبتسم زوجتي قائلة: «وشك حلو يا حودة». دخلت الشارع وأضأت كشاف الموبايل لأتفادى الحفر والنتوءات. ميَّزت الاستورجي الجالس أمام ورشته من خلال سيجارته المشتعلة، وبرغم ذلك لم ألقِ عليه السلام، فعلتها كثيراً منذ انتقالي حديثاً إلى تلك العمارة المواجهة لورشته، ولكنه لم يكن يرد. لا أعلم هل سمعه ثقيل أم إن صوتي منخفض، وأشك في كونه متعاطفاً مع الإخوان ويرفضني بعد علمه بتأييدي ل30 يونيو. عندما فتحت باب الشقة بادرتني زوجتي قائلة: «النور قاطع بقاله ساعة، اصبر شوية زمانه جاي، عشان اعرف أحط لك الأكل». تعلم أن أول ما أسأل عنه، قبل حتى إلقاء التحية: «فين الأكل». خلعت التيشرت وجلست بالفانلة الداخلية. لم أتحمل حرارة الجو من دون تكييف، فدخلت الشرفة وأشعلت سيجارة، بينما كان الاستورجي، الذي لا أعلم اسمه، لا يزال مشعلاً سيجارته، ناظراً إلى الأرض، يهز رأسه بطريقة شخص يندب حظه، أو يتذكر عزيزاً عليه، أخذه الموت. احترت في إيجاد تفسير لمعاملته لي، فارتديت التيشرت مرة أخرى، ونزلت إليه مسرعاً، من دون حتى أن أرد على زوجتي وهي تسألني: «رايح فين؟». وقفتُ أمامه مباشرة قائلاً بلهجة حاسمة: السلام عليكم، فرفع رأسه، وكان صوته ضعيفاً وغائماً وهو يرد: وعليكم السلام يا بني، وكأن الظلام وحده هو ما ساعد على وصول صوته الضعيف لأذني، فعذرت الرجل، وقلت في نفسي إنني ظلمته، وإنه ربما كان يرد عليّ السلام من دون أن يصلني، ووجدتني في ورطة، والرجل يقوم من جلسته ويسألني: «أؤمرني يا بني؟» ورأيت في عينيه حزناً غامضاً، فتراجعت عن معاتبته، وأخذت الأمر برمته إلى منحى آخر، قائلاً له: «عندي مكتبة عايز ادهنها يا حاج»، فرد علي: «نزلهالي وانا تحت أمرك»، ثم استدرك: «بس انت بقالك فترة ما بترميش عليا السلام يا باشمهندس»، قالها بصوت مختنق، فشعرت بأن الرجل يعيش مأساة، وتأكدت من ذلك عندما عاد النور، ورأيت لمعة في عينيه. بادرته قائلاً: «مالك يا حاج؟ فيه حاجة مضايقاك؟»، فلم يرد، واكتفى بالنظر إلى شيء في الأرض وهو يهز رأسه، فنظرت إلى حيث ينظر، فوجدت قطة وليدة نافقة، يخرج من فمها خيط دماء. وقبل أن يترك لي فرصة اتهامه بالمبالغة في التعبير عن حزنه لنفوق قطة وليدة، قال بأسى: «النهاردة الصبح لقيتها قدام باب الورشة بتموت، كانت بِتطلع في الروح، جبت لها لبن وشربتها مية. لما بدأت تتحرك بالليل كان النور قطع ودوستها برجلي من غير ما اقصد». احترت في إيجاد عبارة مناسبة أواسيه بها على مصابه، فقلت له: «معلش» وتركته عائداً إلى شقتي. لا أعلم كم مرة دعتني زوجتي لتناول الطعام؛ إذ تنبهت إلى صوتها وهي تقول: «يعني كل ده مش سامعني»، ولكنني على أي حال أجبتها: «مش هاكل».