هل هي مصادفة أن تقوم ثلاثة متاحف فنية كبيرة في ثلاث عواصم مختلفة وفي الوقت نفسه بإقامة معارض عن الفن المعاصر خلال الثلاثين عاماً الأخيرة؟ ولماذا اختيار الثمانينات من القرن الماضي كبداية لهذا الجرد؟ هناك معرضان يقتصران على البعد القومي، بينما ينفتح الثالث على العالم كله، وهو المعرض الأهم. معرضا البعد القومي أحدهما في العاصمة الصينيةبكين في متحف الصين القومي للفن تحت عنوان «30 عاماً من تطور الفن الصيني المعاصر منذ الإصلاح». والمقصود السياسة التي بدأ الزعيم الصيني الراحل دنج هسياو بنج تطبيقها في أوائل الثمانينات. المعرض الآخر يفتتح في متحف الفنون الجميلة في العاصمة السويسرية برن في عنوان «هنا والآن» عن الفن السويسري في الثلاثين عاماً الأخيرة، ويستمر حتى 26 نيسان (أبريل) 2015. يقدم مختارات من أعمال الفنانين السويسريين من مقتنيات مؤسسة «كينست هيت»، والتي تأسست عام 1982 ومن مقتنيات خاصة، ويتضمن أعمالاً لم تعرض من قبل. أما المعرض الأهم والأكبر على الإطلاق فيتمثل في العرض الجديد للمقتنيات المعاصرة لمتحف الفن الحديث في باريس (مركز جورج بومبيدو) الذي يقدم للمرة الأولى إطلالة بانورامية على الفن التشكيلي في العالم خلال الثلاثين عاماً الأخيرة. هكذا، تستطيع دولة من أقوى الدول ثقافياً، ربما هي الأقوى، مثل فرنسا أن تجمع في معرض واحد 420 عملاً فنياً متفاوتة في الأنواع والخامات والأحجام والأشكال أبدعها 180 فناناً من 55 دولة. والمدهش أنها كلها من مقتنيات هذا المتحف! تم تقسيم المعرض الضخم إلى أقسام موضوعية كلها مفاتيح لفهم التنوع الثري للفنون التشكيلية التي تم إبداعها خلال تلك الفترة. فهي لا تعبر فقط عن الإبداع الفني، إنما هي أيضاً عن انعكاس لتاريخ موجز للعالم لم تغلق صفحته بعد. لذلك، كانت تسمية المعرض «تاريخ» على مسماه. فهي أيضاً مفاتيح لقراءات متعددة لأحداث مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية، بل اقتصادية. هكذا، يكون الفن «روح» الزمن. وهكذا أفسحت إدارة المتحف مساحة كبيرة لحياة هذه «الروح» التي «تشغي» بأرواح آلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم يتجولون بين حناياها، حتى انتهاء هذا العرض المتميز. أعود إلى السؤال: لماذا اختيار الثمانينات كبداية للجرد؟ إنها ليست مصادفة. فقد شهدت هذه السنوات تحولات جذرية في العالم في مجالات الحياة كافة تقريباً، انعكست على مجال الفنون التشكيلية فتحولت تحولات جذرية. هنا مجرد أمثلة قليلة ولكنها دالة: شهد عام 1980 ظهور محطة تلفزيون «سي إن إن» التي كانت أول محطة إخبارية فضائية، لعبت دوراً ضخماً في نقل الأحداث من كل مكان إلى كل مكان. في العام نفسه شن صدام حسين حربه على إيران التي استمرت العقد كله. في 1981، بدأ اكتشاف مرض نقص المناعة المعروف باسم «إيدز». ظهرت كاميرا الفيديو والأقراص الرقمية (CD) عام 1983. عام 1984 ظهر الجينز الذي أحدث ثورة في الأزياء، وفي العام نفسه أطلقت شركة «آبل» جهاز الكمبيوتر الشخصي «ماكنتوش». وأتى غورباتشوف على رأس السلطة ليصبح آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ويفككه. عام 1986 شهد الكارثة النووية الأولى، بعد صمت لأكثر من أربعين عاما بعد كارثة هيروشيما وناغازاكي، وهي كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفياتي. سجل عام 1989 عصراً جديداً: سقوط حائط برلين الذي لم يقسم فقط بين دولتين، ولا بين نظامين، بل قسم بين عالمين للفن في أوروبا. في قارة أخرى، ركزت أحداث ميدان «تيانانمين» في بكين، في العام نفسه الأعين على صين جديدة. ليست جديدة تماماً، ولكنها تتغير على وتيرتها. انتشرت بيناليهات الفنون في القارات كافة. ظهرت لأعين الغرب مناطق فنية جديدة، وسعت الآفاق للتفسيرات الفنية لفترة ما بعد الاستعمار وتاريخها لتشمل العالم كله. في خضم هذه الإثارة المشتعلة أعاد فنانون ابتكار ممارساتهم، بينما أثارت العولمة في كثير من الأحيان ردود فعل منتقدة. شهدت التسعينات من القرن الماضي ظهور شخصيات جديدة هجينة: الفنان كمؤرخ، موثق، منتج، ومخرج أفلام تسجيلية. بينما استمر البعض في إعادة النظر في الحداثة، أعاد آخرون ابتكار الحياة اليومية بتطويع أشياء عادية، والانغماس في واقعيات جديدة، تقديم مشاركات أو عروض جديدة، استكشاف إمكانات صوتية، إعادة ابتكار علاقات بالجسد وتمجيد الخبرات الحسية. عكس العرض العالمي الأهم لمئات من مقتنيات متحف الفن الحديث في باريس لفنانين من القارات كافة كل هذه التغيرات. هاكم قراءة سريعة جداً ومختصرة جداً لأبرزها. الفنان مؤرخاً: بعد سقوط حائط برلين، جعل كثير من الفنانين من أحداث درامية في التاريخ المعاصر موضوعاً لمعالجاتهم. على سبيل المثل، ظهر في الثمانينات فنان أميركي زنجي شاب (من بروكلين – نيويورك) اسمه جون ميشيل باسكيا، بدأ برسم غرافيتي، ثم وقف في الشارع يبيع «تيشيرتات وكروت بريد» عليها رسوماته، قبل أن يتعاون مع الفنان المشهور آندي ورهول ويقيم معه معرضاً مشتركاً، ثم يموت وعمره 28 عاماً. على إثره، وفي التسعينات، ظهر جيل من الفنانين المسيسين الأفروأميركيين راجعوا تاريخه. عبرت عن هذا الجيل في شكل خاص الفنانة رينيه غرين، والفنان جلين ليجون. في الوقت نفسه ظهر فنانون من الشرق الأوسط على الساحة الدولية، منهم: اللبنانيان وليد رعد؛ المقيم في أميركا، وزياد عنتر؛ مصور الفوتوغرافيا والفيديو، الفنانة الإيرانية المقيمة أيضاً في أميركا سارة رهبر التي تستخدم وسائط متعددة، والفنان التركي المقيم بين اسطنبولوبرلين آيس إركمن. رد هؤلاء الفنانون على التاريخ المضطرب للمنطقة بممارسات فنية جديدة. كما ظهر جزء من أوروبا الشرقية في ما بعد العصر الشيوعي، كاشفاً عن فنانين عملوا في درجات مختلفة من الصمت، مثل الفنان الألباني إيدي هيلا، والصربي ملادين ستيلينوفيتش، اللذين كان لهما تأثير حاسم في الجيل الحالي، ومنهم الألباني آنري سالا والكرواتي دافيد ماليكوفيتش. فن الجسد: شهدت التسعينات في العالم كله عودة أسلوب العروض الحية المركزة على الجسد. كان الفنان الأوكراني أوليج كوليك حديث الناس بعرضه الحي الذي أطلق عليه «أصبح كلباً مجنوناً» ظهر فيه عارياً محيطاً رقبته بحزام كلب، مستكشفاً طبيعة حيوانية للإنسان. في تلك الأثناء، قدم الفنان الصيني زهانج هوان عرضه الحي «شجرة عائلة»، حيث غطى وجهه تدريجاً برموز غرافيكية صينية مستفهمة عن هوية عائلته. كان الجسد المدمر أو المجروح موضوعاً هاجسيا لكثير من الفنانين، مثل المصورة الفوتوغرافية الفرنسية صوفي ريستلهوبير التي أنتجت عام 1994 سلسلة من صور الأجساد المقطوبة الجراح سمَّتها «كل واحد». وأثر تطور التفكير في نوع الجنس في الإبداع أيضاً. مثلاً، عام 2012، أثار الفنان نيكولاس هلوبو من جنوب أفريقيا أفكاراً عن الهوية الجنسية عبر منحوتة من قطع من الأنابيب المخيطة معاً وسماها «بالينديل»، مستدعياً إمكانية أن يكون العمل «خنثى». بينما أبدعت الفنانة البريطانية سارة لوكاس منحوتات لأجساد بلا ملامح وبلا أعضاء جنسية، مموهة للحدود بين الجنسين. الفنان كمخرج تسجيلي: قريباً من الواقعية؛ ولدت في التسعينات أيضاً ممارسة فنية مقترنة بالتصوير الفوتوغرافي وتوسعت مع الفيلم السينمائي والفيديو، هي الوثائقية. أصبح الفنان شاهداً ومعلقاً على الواقع. غطى الفنان من خلالها مجالات الصراعات المسلحة، الواقع الاجتماعي – الاقتصادي الجديد، التغيرات في المستويات الأخلاقية وتغيرات السلوك التي ظهرت بسبب الإنترنت. على سبيل المثل، وثَّق الفنان الأميركي آلان سيكولا ذو الأصول البولندية - الإنكليزية في عمله «سبعين في سبعة» عالم العمل في كوريا الجنوبية عام 1993. وفي عمله «مشهد الجريمة» (2011) عرض الفنان الهندي آمار كانوار تشوه المناظر الطبيعية في الهند تحت ضغط شركات التعدين الكبرى. فيما استنكر مواطنه الفنان سوبوده غوبتا وضع المرأة في الهند في عمله «أخت» (2005). عام 2013، سجل الفنان السعودي أحمد مطر في سلسلته الفنية التي أطلق عليها «صحراء فاران» التغيرات الجذرية التي حدثت في مدينة مكة. يبدو طراز الثمانينات وكثير من أسماء المبدعين الأساسيين لتلك الفترة حاضرة اليوم. العمارة الراديكالية، تصميم حركة «الفن الفقير» وأشكال جديدة من التجميع والكولاج التي أسستها في السبعينات من القرن الماضي الحركة الإيطالية الراديكالية «ستديو الكيميا وممفيس»، كلها تنتج تأثيراتها الأخيرة. في الوقت نفسه، كانت هناك عودة واضحة لحداثة معينة، ممثلة في «التبسيطية» فيصبح معدن طلي بالأسود أو الكروم القاعدة في تعليق التاريخ، وحركة «لا مستقبل» التي عادة ما تقارن بحركة «الموجة الباردة» في الموسيقى. وبدت أعمال كثير من المعماريين ترد على طراز التكنولوجيا العالي البريطاني لنورمان فوستر، والإبداع التكنولوجي لرون آراد. هذه التبسيطية الجديدة التي جسدها في اليابان كويشيرو كوراماتا، والعمارة المضيئة لهتسوكو هاسيجاوا وطويو هيتو، أكدت شكلاً جديداً من الفردية التي حللها عام 1983 الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفيتسكي في مقالته «عصر الفراغ». تصميم ذو علاقات بالعيش: استكشف مصممون طرقاً جديدة لتناول التصميم، كرد فعل على المجتمع الاستهلاكي الذي لا يتوقف عن الإنتاج أكثر فأكثر بسرعة كبيرة. دعوا إلى العودة للتمهل، وللضروري وللطبيعة. بذلك، تحولوا إلى التصميم الذي وصفوه ب «البطيء»، و «المنخفض». خلال عقد من الزمن سيطرت التكنولوجيا الجديدة على التصميم، والصناعة وعمليات الإنتاج. وفرت للمبدعين مجالات غير مسبوقة للبحث من أجل إعادة التفكير في التصميم: أكثر اقتراباً من عالم العيش من المجتمع الصناعي مع دمج بين الرقمي «ديجيتال» واليدوي «ارتيزانال» في شكل هجين ذكي حر وغير معلق.