لازمة دمشق أن المجموعات المتطرفة والإسلاميين أحكموا قبضتهم على حركة التمرد. ولكن واقع الحال في الأراضي الخارجة على سلطة النظام معقد، ولا يجوز اختزاله بخلاصة مبسطة. في الأشهر الماضية، تسلل اليأس إلى قلوب الديبلوماسيين الفرنسيين والعملاء الموكل إليهم الملف السوري وإحصاء المجموعات الثائرة، وتصنيفهم وفق لونهم السياسي ووزنهم «على الأرض»، والتمييز بين المتطرفين وبين المجموعات المعتدلة والعلمانية. ويروي أحدهم انه تفاجأ في إحدى زياراته الأخيرة إلى سورية، حين وقع نظره على رزمة دولارات على طاولة مضيفه، وهو زعيم من زعماء الثوار. وهذا أبلغه أن دولة عربية سلمته الرزمة هذه لثنيه عن مقابلة دولة إقليمية منافسة لها. «أخذت المبلغ وأحجمت عن السفر إلى تلك العاصمة، ولكنني أرسلت مساعدي ليمثلني»، قال الزعيم ضاحكاً. فعصابته المسلحة تتلقى التمويل من دولتين إقليميتين متنافستين. ولكن هل يرمي قتال الثوار إلى دولة ديموقراطية تجمع أبناء الديانات المختلفة أو إلى إرساء خلافة إسلامية؟ وهل يتصرفون من تلقاء انفسهم أم ينزلون على أوامر سلطة عليا؟ وما عدد «الجهاديين» الأجانب الذين يقاتلون في صفوف الثوار؟ وما مدى نفوذ «القاعدة» في ميدان المعارك؟ مثل هذه الأسئلة يشغل الغرب. ومن العسير، لا بل من المستحيل، تحديد الفِرق البالغ عددها 1500 إلى 2000 فرقة التي ترفع لواء الثورة. فعددها في تغير مستمر على وقع الانقسامات والتحالفات السارية إلى ما لا نهاية والولاءات المتقلبة. وأسماء الفرق لا تحدد هويتها. فشطر كبير من المجموعات المسلحة تتخذ اسماً إسلامياً وتتوسل خطاباً دينياً لاستمالة الأثرياء العرب، وفق تقرير الباحثَين بسمة قضماني وفيليكس لوغران. وبعد أشهر من التظاهرات السلمية والقمع الدموي، برز الجيش السوري الحر في خريف 2011. وأول من حمل السلاح كانوا جنوداً وضباطاً منشقين أو شباباً معارضاً أراد الانتقام لقريب لهم سقط برصاص النظام. وبدأ هؤلاء يجتمعون وفق انتماءاتهم العائلية والقبلية والقروية. وشطر راجح منهم من أبناء الريف، وهم محافظون سنّة شأن 80 في المئة من السكان. وبعض المجموعات تجمع أبناء طوائف مختلفة. ففي محافظة إدلب، تنشط كتائب الوحدة الوطنية. وتضم في صفوفها علويين إلى السنة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، أنشأ الجيش السوري الحر المجلس العسكري الأعلى على رأسه اللواء السابق، سليم إدريس، للإشراف على العمليات الحربية وتوزيع السلاح والتمويل. وبعد عام واحد على إنشائه، بدأ هذا المجلس بالتداعي والانهيار. فالفرق والكتائب لا تنسق في ما بينها، ويغنّي كلٌ منها على ليلاه، ولا يجمعها استراتيجية واحدة. ولم يفلح سليم إدريس في فرض سلطته على الثوار. وبلغ انقسامهم مبلغاً غير مسبوق. وعدد الموالين لإدريس لا يزيد عن 5 في المئة، على قول فهد المصري الناطق باسمه في باريس. ويهيمن الإسلاميون على اختلاف أنواعهم على الثوار. وهم أعلنوا قطع العلاقات بائتلاف قوى الثورة والمعارضة في الخارج. وأفدح التطورات الأخيرة هو تعاظم نفوذ الإسلاميين التابعين «للقاعدة» في سورية. وبسطت «جبهة النصرة» - وهي تجمّع معتقلين سابقين أطلقهم بشار الأسد من السجون - نفوذها إلى مناطق الحدود التركية ووضعت اليد على حقول النفط في دير الزور وتتعاون مع النظام في استخراجه. وفي الربيع، تربّعت محل «الجبهة» هذه، الدولة الإسلامية في العراق والشام، «داعش»، المؤتلفة من منشقين ومقاتلين عراقيين. والغرب مسؤول عما آلت إليه الأمور. فهو لم يساعد الثوار إلا لماماً و»بالقطّارة». «احتفينا بسليم إدريس. ولكن لم نقدم غير دعم شكلي. وحين نسلم عتاداً نقف موقف المتفرج ولا نساهم أكثر»، يقول خبير فرنسي غاضباً. ويرى الباحث في السياسة جيل دورونسورو إثر عودته من رحلة بحثية في حلب، أن بروز مجموعة وأفولها، سواء كانت إسلامية أو علمانية، وثيقا الارتباط بالدعم الخارجي. والمجموعات الإسلامية تتلقى تمويلاً يفوق تمويل المجموعات المعتدلة الأخرى. وسعى النظام الديكتاتوري إلى النفخ في تطرّف النزاع ليصبح الخيار بينه وبين «القاعدة». وقوات الأسد تستهدف المعتدلين، وتهادن المتطرفين، خصوصاً في الرقّة. ويحرّض النظام الطوائف على بعضها بعضاً. فمجازر مثل تلك التي وقعت في بانياس وراح ضحيتها نحو 1500 قتيل وتلك التي وقعت في الغوطة في 21 آب (أغسطس) الماضي، تحمل المتطرفين في أوساط السنة إلى الانتقام. فتسارع وسائل إعلام النظام إلى تسليط الضوء على هذه العمليات. وحين بدأت أصوات التململ والمعارضة تعلو في الأوساط العلوية، سحب الجيش النظامي طوقه عن قرى اللاذقية، فسقطت 11 قرية علوية في ايدي الثوار. وقتل من أهاليها نحو 300 رجل، ليس في عدادهم نساء أو أطفال. ووقع سليم إدريس في الفخ المنصوب له، وزار هذه القرى. ونجح الرئيس السوري في تحذير أبناء ملته من المصير الأسود الذي ينتظرهم وأظهر للعالم أن الجيش السوري الحر يخوض حرباً طائفية. ولكن «القاعدة» لا تهيمن على الثوار السوريين، على خلاف ما خلص إليه شارلز ليستر في دراسة مرجعية. وهو قدّر عدد المقاتلين المتطرفين ب 7 آلاف مقاتل إلى 10 آلاف، أي أقل من 10 في المئة من مجموع الثوار. وإذا جمع إلى هؤلاء المتطرفين لواء الإسلام، بلغت نسبتهم إلى الثوار 40 في المئة. ولكن المقاتلين يهاجرون من كتيبة إلى أخرى أو من مجموعة إلى أخرى ويغيّرون الولاءات على وقع حركة تدفق المال والعتاد. وعلى رغم أنشطة العصابات الإجرامية، لم تنزلق مناطق الثوار إلى الفوضى. ف «الناس يديرون أمورهم على خير ما يرام. والعجلة تدور في بلدية حلب»، يقول دورونسورو. * مراسل، عن «لونوفيل اوبسرفاتور» الفرنسية، 10/10/2013، إعداد منال نحاس