لا داعي لتكرار مقولة المجتمع الدولي، وضرورة الانصياع للإرادة الدولية، والقانون الدولي والمبادئ الأخلاقية؛ ولا حاجة للعويل والندب على الأخلاق والقيم، فالمجتمع الدولي المعاصر تجاوز تلك المطبات، واعتنق اكثر فأكثر ميكافيلية سياسية متوحشة، ومنظومة أخلاقية نسبية تنفي بالممارسة كل إنجازات البشرية الأخلاقية. من العبث ان نرى في ظل هذا الواقع الدولي انفراجة أخلاقية أو قانونية في مسار الأزمة السورية التي انتقلت من حيز أزمة محلية الى حيز ازمة اقليمية، وأخيراً الى ازمة دولية يُقامر بها على طاولة اللاعبين الدوليين الكبار. في مجزرة الغوطة نعيش وحشية الكيماوي ونشاهد ضحايا صغار وكبار يصرخون، ويتلوون، ويختنقون فتتحرك إنسانيتنا لدقائق، لندخل بعدها مع اللاعبين الكبار في الدردشة عن الواقعة والمراهنات التي نعقدها حول رد فعل المجتمع الدولي: هل ستضرب أميركا ام لا؟! نراهن على أميركا لا لأنها فقط الدولة العظمى بل لأنها تحمل قيماً ومبادئ ترفعها في اعيننا رغم نقدنا الدائم لها ولممارساتها غير الأخلاقية من حين لآخر. تتطلع اعيننا لهذه الدولة (أميركا)، ولرئيسها الذي عانى اجداده من الظلم والاضطهاد ما تعجز عنه الأقلام، والذي صفقنا له بحرارة، لينقذ أطفال سوريا، ويوقف شلال الدم؛ علقنا أملاً عليه وعلى المجتمع الدولي، بعدما فقدنا الأمل بمنظومتنا العربية. تقول أميركا ان النظام السوري ارتكب هذه المجزرة وإن لديها ادلة كثيرة، وتؤيدها بذلك دول اخرى، وتقول روسيا ان المعارضة وراءها ولديها ادلة، وتؤيدها بذلك دول اخرى. هكذا يتحول الخلاف الى مسألة تقنية حول هوية المنفذ، ويتعقد اكثر عندما ترفض روسيا البحث عن هذا المنفذ، وترفض ان يتهم النظام السوري، بينما ترى أميركا والغرب ان النظام هو المسؤول وأنه يجب ان يعاقب لأنه خرق خطاً أحمر رسمه رئيس اكبر دولة على وجه الأرض. يهلل المعذبون لقرار الرئيس اوباما ويهلل المؤمنون بإنسانية البشر بأن ثمة حداً اخلاقياً لا يجب تجاوزه وإلا لتحولنا جميعاً الى شريعة الغاب؛ لكن الرئيس الأميركي ليس بهذه القوة الأخلاقية، ولا بهذا الإيمان القوي، يحيل المسألة على مجلسيه التشريعيين، كما أحال رئيس الوزراء البريطاني القضية على برلمانه. في بريطانيا رأينا نواب الأمة لأعظم دولة في العراقة البرلمانية يتحدثون ليس عن الإنسانية، ولا عن الفظائع بل عن مصلحتنا في التدخل، وكم هي التكلفة المادية؟ وما هي استراتيجيته؟ وما علاقة ما حدث هناك بالأمن القومي البريطاني؟ في بريطانيا يُصوت هؤلاء النواب ضد الضربة ويتضح ان عشرين منهم زاروا دمشق على حساب النظام السوري، وبعضهم لم يكلف نفسه حتى عناء التصويت فاختار البقاء في إجازته الصيفية، وبقي آخرون خارج قاعة التصويت، وتذرع احدهم بأنه لم يسمع جرس التصويت؛ هكذا يرى نواب الأمة البريطانية مأساة الغوطة، وهكذا يرون العالم. في أميركا تتحول صرخات اطفال الغوطة الى فرصة انتخابية للجمهوريين اليمينيين لتسديد فاتورة حساب مع الرئيس اوباما؛ فرصة لإضعافه وهز صدقيته في الداخل. في برلمان أميركا تتحول اجساد القتلى في الغوطة الى مناسبة لمعرفة رأي الناخبين بما يجري: هل نتدخل ام لا؟ استطلاعات الرأي كثيرة، وكلها تؤكد ان الناخب الأميركي لا يريد ان ينفق ماله على إنقاذ اطفال ونساء ورجال، بل على بناء مصانع، وخلق فرص عمل؛ النواب الأميركيون فجأة اصبحوا يؤمنون بحرفية الديموقراطية وأصبحوا لا يستطيعون ان يصوتوا من دون الرجوع الى ناخبيهم فلا يجدون تأييداً للضربة على الإطلاق، بل ان نسبة 90 في المئة او اكثر من دوائرهم الانتخابية تعارض الضربة! النواب الأميركيون الراضخون دوماً لجماعات الحشد والتأييد، ولرغبات الشركات الكبرى، فجأة، يرون انهم غير قادرين على تجاوز رغبات ناخبيهم!! هل الرئيس الأميركي وقع في ورطة ام انه ورط نفسه؟ لا يهم الإجابة عن هذا السؤال لأن نتيجة عدم التدخل واحدة: عالم بلا ضابط ولا رقيب. عالم مترابط كأنه قرية، ومع ذلك لا يحس احد فيه بوجع احد، ويتنافس فيه الكبار على موارد محدودة، ويسعى فيه صغار على تقليد الكبار، وحيازة السلاح الفتاك لكي لا يغزوا في عقر دارهم. عالم تتحول فيه دماء اطفال الغوطة الى ساحة لتصفية حسابات دولية وإقليمية، ومناسبة لإعادة العالم الى قطبية ثنائية متخيلة؛ يفرح انصار النظام السوري بأن روسيا وإيران والصين أعادت التوازن للنظام الدولي وأنه ليس بمقدور أميركا ان تفعل ما تشاء، ويحزن معارضو النظام لأن أميركا خيبت آمالهم، ولأنهم تركوا وحيدين في العراء. هذا الفشل الأخلاقي، وتلك الميكيافيلية التي يخجل منها ميكيافيلي نفسه، ستجرنا الى ويلات وويلات في عالم تتغير خريطته بسرعة، ويصبح فيه اللاعبون الكبار أعجز من ناحيتي الموارد المادية او الصفات القيادية؛ روسيا الاتحادية تعرف في قرارة نفسها أنها اقل قدرة، وأنها من الحجم المتوسط، وأنها لولا السلاح النووي لما كان لها هذا الوزن؛ وتعرف دول أوروبا انه لولا الاتحاد الأوروبي لما كان لها ثقل في المعادلة الدولية؛ وتدرك الولاياتالمتحدة بعد تجربتي العراق وأفغانستان انها أصبحت مترهلة، متعبة، ومثقلة بالديون، ومشوشة أخلاقياً. في هذه الخريطة الدولية يظهر لاعبون جدد من الدول النامية يحاولون حيازة شطيرة كعكة التقسيم الدولي؛ فالصين المتحفزة لإشباع عجلتها الاقتصادية تحاول الوصول الى الموارد الطبيعية وبالتحديد الطاقة، وكذلك الهند والبرازيل وتركيا وإيران كل منها يسعى لتحقيق أولوياته التي تنحصر في رفع شأن المصالح والتشديد عليها، وتفضيلها على الأخلاق إن قام تضارب بينهما. نحن ندخل عالماً جديداً من قانون الغاب، القوي فيه يأكل الضعيف، والمسألة الأخلاقية فيه نسبية، والمعيار الاقتصادي فيه مطلق وفي ضوئه تحدد قيمة الإنسان، ومراتب الدول، وعلى أساسه يتخذ القادة قرارتهم وتصوراتهم؛ عالم لم يسبق لنا نحن العرب ان عايشناه ولا توقعناه بعد ربيع عربي، فكان حصادنا منه ضعفاً وذلاً وهواناً وذبحاً انه حقاً عالم بلا ضوابط ولا رقباء. * كاتب لبناني مقيم في لندن