سيئٌ وبائس حظُّ الشعب السوري، وفريدة ثورته المأسوية «المستحيلة» و «اليتيمة». لم يأته ما أتى الليبيين من دعم دولي وعربي سريعين وحاسمين، وضعا حداً لهمجية القذافي وجرائم عصاباته. لم يحظ بما حظيت به اليمن من تدخل ومبادرات ساهمت إلى حد كبير في تقليل خسائر الثورة هناك، وفي ترسيخ توجه حكومي وأهلي فضّلا سلوك طرق التفاوض والتنازل المتبادل على المجابهات الدموية العنيفة. ما كان للسوريين جيش وطني يسلك مسلك الجيش التونسي مثلاً. انقسم الأصدقاء العرب «الداعمون» وتنافسوا في الدعم وطرق الضغط التي بدت في المحصلة متناقضة، ومعهم انقسم العالم «القوي». إلى ذلك، خطا المجتمع الدولي، على ما في مواقفه من غموض والتباس من العسير تبريرهما، خطوات بطيئة في وحل التردد الذي تحول مع مرور الوقت إلى مراقبة إحصائية وحسب. لم تقدم أية مبادرة، إقليمية أكانت أم دولية، فرصة حقيقية وجادة تمنع تمدد رقعة المأساة، والحؤول دون بلوغها الفوضى الشاملة والغرق في حرب أهلية طويلة بين السوريين. لم تكف أرقام عشرات آلاف الضحايا المدنيين والمعتقلين والمختفين قسرياً، وحطام المدن القرى المدمرة، وملايين اللاجئين والمشردين، حتى يلمس العالم «المتحضر» قلبه ويتحرك لإنقاذ أولئك المنسيين الذين توسلوا واستغاثوا كل أحد، كل جهة، أن تبادر وتنقذ ما يمكن إنقاذه، وتوقف النظام عن ارتكاب أعمال وحشية، وصلت الى حدّ استعمال السلاح الكيماوي. على أن من الملاحظ، كي لا يقوم السوريون بلوم قوى العالم الفاعلة والمتحكمة وتحمليهم وحدهم مسؤولية كبيرة عما حلّ بهم، أن الثورة السورية، على ما قدمت من بطولات أسطورية وقوة تحمل فريدة، فشلت في إظهار زعيم وطني يقدر أن يقدم خطاباً يجمع السوريين على عهد جديد، ناهيك عن إقناع من طال تردده إزاء التدخل من عدمه، بضرورة التدخل غير المحدود بشرط سوى وقف عنف النظام في شكل نهائي وقطعي. بحث الثوار عمن يمثلهم ويتكلم باسمهم، لكن أولئك الذين حازوا مناصب تمثيلية كانوا دون مستوى الطموح ومستوى الحاجة. وما خرج من مختلف هيئات المعارضة وتنظيماتها يكاد يضيف خيبة الأمل إلى ما يجلبه اليأس من مرارة وإحباط. لعل ما ميّز السوريين وطريقتهم في الوقوف ضد نظام الأسد خلوّها من مركز سياسي وحيد ذي قدرة جامعة وكفاءة قادرة على الارتقاء بالعمل السياسي المباشر من حالة التمزق والتنابذ إلى طور يحول دون تحول التمزق الحالي إلى الجمود واستيلاد أشباه أصغر وأضأل، هنا وهناك. لطالما تبجح النظام السوري وإعلامه و «خبراؤه الصحافيون» بعدم وجود جسم معارض سياسي، وإذ تأسس المجلس الوطني السوري سرعان ما مدّه الثوار على الأرض بالثقة والتفويض. لكن المجلس، والائتلاف من بعده، نسيا أو تناسيا كونهما جسماً إسعافياً فرضته ظروف الحال السورية، مما أغرقهما في مسائل إجرائية وتنظيمية، وصراعات غير مبررة بين الشخصيات، تحوَّل معها هيكل المعارضة إلى عبء على السوريين في الوقت الذي كان على تلك الأجسام أن تجد صيغاً أكثر حيوية وقرباً من إلحاح الوضع، وضرورة مخاطبة السوريين، كل السوريين، بما يطمئنهم ويزيل عنهم أية شكوك أو مخاوف، وفي الصدارة أقليات تخشى مرحلة ما بعد الأسد، كالعلويين أو الأكراد الذين شعروا بنبذهم وبعد خطاب المعارضة عن خصوصيتهم القومية أو المسيحيين الذين لا يمكن أن تكون سورية الإسلاموية، على نمط المحاكم الشرعية، بلدهم. الغريب أن تنحصر خلافات الهيئات المعارضة هذه وتنحدر إلى مستوى شخصي عقيم وسقيم ومخجل، والغريب وغير المفهوم أيضاً ألا يخرج من بينهم زعيمٌ ذو شخصية تمسّ بحضورها ولغتها ورؤيتها السياسية العصب السوري الوطني، مما كان له في حال وجود شخصية كهذه ، أثر كبير وفاعل في أن يجمع الممزق من الحال السورية والمشتت من مناطقه ومكوناته، الخائف منه أو الحذر والمتحفظ. الحقيقة أن ضحالة وتردداً وضعفاً عاماً تسم معظم شخصيات المعارضة، التي بدا من كتاباتها ومواقفها الوعظية والإرشادية وحضورها الإعلامي ما يدفع إلى الظن أن سياسات نصف قرن من الحكم الأمني الخانق قد حولت الثقافة السياسية السورية وطبقاتها الفاعلة إلى زمن خارج زمن الحياة السياسية المعاصرة، وما تقتضيه من دينامية وابتكار. فهذان لو توافرا لكانا وفّرا على السوريين، وعلى من يشكك في جدوى دعم الثورة السورية وما يمكن أن تؤول إليه بعد إسقاط نظام الأسد، الكثير من الغموض والحيرة والبطء. وهذا ما سمح للأسد بتحويل سورية إلى بلد يخاف أي كان أن يتورط في صراعاته التي تحولت إلى شبه شبكة عنكبوتية لا تدري من أين تبدأ وأين يمكن أن تنتهي. تضحيات جليلة على الأرض، لكن ما يقابلها أن سورية بلا زعيم وطني. * كاتب سوري