تولد المنظمات الدولية في ظروف غير عادية. غالبية هذه المنظمات تتلاشى وتغيب عن الأنظار بعد انتهاء هذه الظروف. ولكن البعض منها يستمر وينمو بعد زوال مبررات خروجه إلى الحياة. حلف الأطلسي ولد عام 1949 في أحضان أزمة حصار برلين الذي فرضه الاتحاد السوفياتي. وانتهى حصار برلين، لكن الحلف لم ينته، بل تحول إلى لاعب مهم على الصعيد الدولي، وإلى فاعل في إطار الحرب الباردة. حلف وارسو ولد عام 1955 كرد فعل على قيام حلف ناتو وعلى ضم ألمانيا الفدرالية إليه. وبعد سنوات تحسنت العلاقة بين ألمانيا وروسيا، ولكن حلف وارسو نما وترعرع لكي يواجه تحديات جديدة ومتفاقمة ولكي ينهار بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. ويمر العالم اليوم بأزمة اسمها الأزمة السورية. وفي هذه الأزمة يلعب الأطلسي دوراً في تهيئة الأجواء لتوجيه ضربة ضد سوريا، وفي حشد القوى المدعوة إلى المساهمة في هذه الضربة المتوقعة. هذه الأزمة سوف تؤثر على الحلف الأطلسي، ولكن في السياق ذاته الذي سارت فيه تأثيرات الأزمة الليبية، أي على تثبيت دوره وتوسيع مهامه خارج الحدود الأوروبية، وخاصة في المنطقة العربية. الأثر الأكبر المتوقع سوف يكون على «منظمة شنغهاي للتعاون»، التي تعقد قمتها في بيشكيك عاصمة قيرغيزيا، وسوف يخصص قسم مهم من مداولات رؤساء دول المنظمة للمسألة السورية ولأوضاع أفغانستان، فكيف تكون نتائج هذه المداولات؟ هل تؤدي إلى تحول منظمة شنغهاي إلى وريث لحلف وارسو ومن ثم إلى تعبيد الطريق أمام حرب عالمية باردة؟ وكيف تؤثر الأزمة السورية على مستقبل منظمة شنغهاي؟ إجابة على هذه الأسئلة، فإنه ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار الفوارق الثلاثة التالية بين حلف وارسو ومنظمة شنغهاي للتعاون: أولاً، لقد نشأ حلف وارسو كردّ على ضم ألمانيا الفدرالية إلى حلف ناتو، وعلى ما اعتبرته دول أوروبا الشرقية سعياً من قبل دول الغرب وخاصة الولاياتالمتحدة إلى إحياء الروح العسكرية الألمانية والتحالف معها ضد الاتحاد السوفياتي السابق. أما منظمة شنغهاي، فقد تأسست، كما جاء في إعلان ولادتها خلال عام 2001، «للمساهمة في الحرب الدولية على الإرهاب والتطرف». أي أنها خرجت إلى الوجود وهي أقرب إلى أن تكون حليفاً للغرب وللحلف الأطلسي في حرب مشتركة، وليس العكس. وخلال السنوات التكوينية للمنظمة، أبدى زعماؤها حرصاً ملحوظاً على استبعاد ما يمكن أن يُعتبر استفزازاً للغرب وللدول الأطلسية. فعندما استضافت الصين مناورات عسكرية مشتركة لدول المنظمة عام 2005، واختارت منطقة قريبة من أراضي تايوان للقيام بها. في وقتها تمنى الزعماء الروس على أقرانهم الصينيين نقل المناورات إلى منطقة بعيدة عنها منعاً لاستفزاز واشنطن، ووافقت بكين على طلب موسكو من دون تردد. وخلال القمة الخامسة للمنظمة عام 2006، أكد زعماؤها أنها ليست ضد الغرب ولا هي منافس للحلف الأطلسي. وفي المناسبة نفسها، طلب الرئيس الروسي بوتين من نظيره الإيراني أحمدي نجاد التركيز على أهداف المنظمة التنموية والسلمية والابتعاد عن الغوص في مسألة العلاقة مع الولاياتالمتحدة. فضلاً عن ذلك، فإنه عندما طلبت إيران الانضمام إلى المنظمة، تمت الموافقة على قبولها كعضو مراقب تجنباً لنقل الصراع مع أميركا إلى داخل المنظمة. وفي معرض الإشارة إلى فاعلية المنظمة يجد مراقبون أن أوضاعها المالية والإدارية لا تسمح لها بتجاوز سقف النشاطات المحدودة التي تقوم بها حالياً، ففي عام 2005 لم تكن ميزانية المنظمة تزيد عن 2.5 مليون دولار سنوياً. وارتفعت هذه الميزانية بصورة سنوية، إذ بلغت عام 2007 ما يقارب الأربعة ملايين دولار وتضاعفت خلال السنوات اللاحقة. أما على صعيد الإدارة، فلم يتجاوز عدد العاملين فيها عام 2006 الثلاثين موظفاً. وكما ارتفعت ميزانية المنظمة، فقد ازداد عدد العاملين فيها سنوياً، ولكن من دون أن يصل إلى حد يعزز فاعليتها كمنظمة دولية فعالة كما كان الأمر مع حلف وارسو. لعبت هذه العوامل دوراً مهماً في التأثير على دور منظمة شنغهاي تجاه المنطقتين الشرق أوسطية والعربية بحيث حدّت منه وأفسحت المجال أمام الحلف الأطلسي لكي يضطلع بالدور الأبرز والأهم والوحيد بين المنظمات الدولية على هذا الصعيد. ولكن من الأرجح أن تترك الأزمة السورية آثارها على أوضاع منظمة شنغهاي وعلى قمة المنظمة غداً، فخلال الأزمة ترسخ التطابق والتنسيق بين موسكووبكين، واستمر التطابق في المبادئ وحتى في التفاصيل بين الموقفين. ومع استمرار هذا التوافق لمدة تتجاوز العامين، فإنه يتحول إلى ظاهرة قابلة للبقاء والديمومة حتى ولو زالت، أو خفت مفاعليها الدولية. هذه الحال لن تغير موقف زعماء المنظمة تغييراً جذرياً تجاه العالم الأطلسي. سوف يستمر الأوراسيون في محاولاتهم تجنب تجديد الحرب الباردة بينهم وبين الأطلسيين، ولكنهم سوف يكونون أكثر حذراً وأقل تساهلاً مع الدول الأطلسية مما كانوا في الماضي، أي أن النهج الأوراسي سوف يكون أقرب إلى تكرار الموقف الصيني-الروسي تجاه سوريا، منه كما كان تجاه الأزمة الليبية. ومن البديهي أن تتحمل منظمة شنغهاي بعض العبء في هذا التحول، لذلك فإنه من المتوقع أن يعرب المجتمعون غداً في بيشكيك عن رغبتهم في تعميق المنظمة الأوراسية أفقياً عن طريق ضم المزيد من الدول إليها، وعمودياً عن طريق تطوير مؤسساتها وإمكاناتها المادية والبشرية والعسكرية. قمة بيشكيك لن تنجب نسخة أوراسية من الحلف الأطلسي، فالطريق إلى استنساخ هذا الحلف طويل ويحتاج إلى إمكانات كبيرة وليس هناك مؤشرات تدل على أن الزعماء الأوراسيين على استعداد لتوظيف مثل هذه الإمكانات في منظمة شنغهاي، ولكن من الأرجح أن يزيدوا من استثماراتهم في المنظمة الناشئة، ومن حضورهم في المنطقة العربية. * كاتب لبناني