مع اعلان واسع لمعارضة عراقية اثر هزيمة نظام الرئيس السابق صدام حسين بعد «حرب تحرير الكويت» 1991، بات الكلام شبه متطابق بين اركان تلك المعارضة المتنافرة، في باب تبرير التحالف مع «اعداء» النظام الحاكم في بغداد: اميركا، الكويت، سورية وايران، ومفاده «اننا مستعدون للتحالف مع الشيطان» من اجل الخلاص من صدام. «الشيطان»، وهو الحليف الاميركي الذي ما ان اسقط النظام الديكتاتور، حتى وجد عراقيين آخرين، يقولون انهم «مستعدون للتحالف مع الشيطان» كي يتخلصوا منه ومن الحكام الذين تحالفوا معه، حتى انه بعد نحو سنة من انسحابه، باشرت مناطق سنية تشكّل اكثر من ثلث مساحة العراق استعدادها لاستقبال «شيطان» دموي رهيب، هو «داعش» تطبيقاً للفكرة اياها. فقوى تلك المناطق وعشائرها ورجال دينها، كانوا مستعدين ل «التحالف مع الشيطان» من اجل الخلاص من رئيس الوزراء نوري المالكي، وسياساته حيال المناطق السنّية. اليوم كشف «الشيطان» الذي اكتسح في وقت قياسي نحو نصف الجيش العراقي، قبل ان يبسط سيطرته على اكثر من ثلث البلاد، مجزرته الدموية، ليتحول المهللون له، والمتحالفون معه، الى اكثر الناس حماسة لضرورة استقدام القوات البرية الاجنبية من الدول المشاركة في التحالف العربي- الغربي من اجل مقاتلته. وإذ يلاحظ المراقب ان ثلاثة انتصارات «عراقية» تحققت في مناطق «شيعية» او مهمة بالنسبة اليها شمال بغداد وجنوبها، هي آمرلي، الضلوعية، واخيراً جرف الصخر، تمت بإدارة قوات غير حكومية، عمادها الميليشيات الشيعية والمتطوعون ضمن «الحشد الشعبي»، وبقيادة مباشرة من الحرس الثوري الايراني وقائد فيلق «القدس» فيه، الجنرال قاسم سليماني، فيكون السؤال: هل عجز الشيعة العراقيون، وبعد 11 عاماً من سيطرتهم المطلقة على قوات امنية صرفت عليها بلادهم وأميركا نحو 200 بليون دولار، عن تقديم مبادرة عسكرية حقيقية، ولماذا يصبح الحرس الثوري الايراني هو مفتاح «النصر العراقي»، يأتي الجواب، «لماذا لا... نحن مستعدون للتحالف ليس مع ايران، بل مع الشيطان من اجل ابعاد خطر تنظيم «داعش» الارهابي عن مناطقنا وإنقاذ اهلنا ومراقدنا»! بحثاً عن «سليماني عراقي»؟ وفي حين بدا الأمر طبيعياً عند الوسط الشعبي الشيعي، تساءل كتاب ومثقفون عراقيون: «هل هي معركة الآخرين على ارضنا وبدماء ابنائنا؟ هل أُصيبت أرحام امهاتنا بالعقم عن إنجاب (سليماني) عراقي»؟ ويقول الكاتب والصحافي خالد مطلك: «نحن بلد الألف فريق ركن، فلماذا يقود معاركنا سليماني؟ بصراحة انا أشمئز من ابي حفص الشيشاني وأبي قتادة السعودي، اشمئزازي نفسه من قاسم سليماني، ان دمي العراقي لا يقبل الغريب إلا ضيفاً مؤدباً يدخل الدار من الباب بعد ان يستأذن أهلها». وثمة من يرى ان حرص سليماني، المعروف عنه سرية التحرك والتكتم على سياساته في العراق، على الظهور العلني وبث الصور المتلفزة والفوتوغرافية (بعضها تجمعه الى قوات البشمركة الكردية)، ما هو الا «إعلان استعراضي» يكون فيه المسؤول الايراني مقابلاً للجنرال الأميركي جون آلن الذي ينسق جهود التحالف ضد «داعش». وفي الوسط الشيعي المتشكل ضمن «الحشد الشعبي»، ثمة من يشدد على اهمية الدور الايراني والثقة بحرسها الثوري، مقابل التشكيك بالدور الاميركي والغربي، عبر فرضية ان «داعش» لعبة اميركية، وأن ما يؤكد تلك الفرضية، هو «قيام الطيران الاميركي بتوجيه ضربات جوية الى «المجاهدين» حين يحرزون تقدماً ضد التنظيم الارهابي، وتبرير ذلك لاحقاً بأنه تم من طريق الخطأ». العبادي لأوباما: أورثني «حليفكم» عراقاً مفلساً بلا جيش في باب التبرير، وإن كان هذا لم يتم رسمياً، للاستعانة بالحرس الثوري الايراني، وقبل ذلك بالميليشيات التي لم تكن مسالمة حتى مع أبناء جلدتها انفسهم، على رغم كونها تعبيراً عن اتجاه متشدد داخل المجتمع الشيعي يعتمد الولاء لنظام الولي الفقيه في ايران، ولا يرى في ذلك إلا «تكليفاً شرعياً»، كونه ينطلق في تفسير ذلك الولاء من قناعة دينية-طائفية، وليس تحت ذرائع سياسية تقارب مقاييس «الوطنية»، ثمة تيار حكومي قريب من رئيس الوزراء حيدر العبادي، يعتقد انه ما كان هناك خيار غير هذا لمنع «داعش» من دخول بغداد وإسقاط الحكم وقتل الشيعة في سلسلة من المجازر. وينقل مصدر بارز ل «الحياة»، كان قريباً من اجتماع اوباما مع رئيس الوزراء العبادي، في ايلول (سبتمبر) الماضي، ان الأخير وضع الرئيس الاميركي في صورة حقيقية لأوضاع العراق، وإن كانت قاتمة، فهو قال له بوضوح منتقداً سلفه نوري المالكي: «ماذا كان علينا ان نفعل سريعاً لانقاذ بغداد من السقوط؟ فقد اورثنا (حليفكم) عراقاً مفلساً وبلا جيش، فقبلنا حماية توفرها قوات غير حكومية وبدور ايراني بارز لا مفر منه مع تأخر تدخلكم ضد «داعش»، فضلاً عن ان هذا الدور وجد تفهماً منكم بل قبولاً واسعاً به». وإذ تحرك الايرانيون دفاعاً عن بغداد، ثم في مناطق تشكل مفاتيح الطرق اليها، شمالاً وجنوباً، فثمة رأي عراقي رسمي، يرى ان ذلك، مع بطء واشنطن في تنفيذ ما عليها من التزامات تفرضها الاتفاقية الامنية المشتركة، جاء ترجمة لاتفاقية امنية عراقية- ايرانية، تهرع بموجبها طهران لنجدة بغداد ما إن تطلب الاخيرة منها ذلك. «الشياطين» يقترحون جيوشهم وعن «الجيش الرديف» الذي اقترحه رئيس الوزراء السابق والقائد العام للقوات المسلحة بعد هزيمة نحو نصف الجيش العراقي امام «داعش» والإقرار بوجود جيش «الحشد الشعبي» لاحقاً، و «الحرس الوطني» المزمع تشكيله ليكون مسؤولاً عن الامن الداخلي لكل محافظة عراقية، يقول الضابط في الجيش العراقي السابق والناشط السياسي والاجتماعي في البصرة حالياً، الشيخ مزاحم الكنعان التميمي: «تعددت المسميات والنتيجة تحت الصفر بدرجات... في البدء كان حلُّ الجيش الوطني (الجيش العراقي السابق)، فحلت الفوضى والميليشيات، ثم شكلوا ما سمّوه بالحرس الوطني ثم قالوا إنه جيش ولم يكن كذلك مع الأسف، ثم أصبحنا أمام الحشد الشعبي الذي يريدون تحويله الى تشكيل عسكري يسمّونه الجيش البديل»... مضيفاً: «وكانت لدينا شرطة ثم صارت شرطتين، اتحادية ومحلية، وثالثة لحماية المنشآت، والآن نحن أمام ما يطلقون عليه الحرس الوطني وهو أخطر من سابقاته، كل ذلك وما زالت الميليشيات والعصابات منتشرة تفعل ما تشاء ولا رادع لها». لكن الخبير الامني، ابراهيم الصميدعي، يرى ان «الحشود الشعبية»، «حال استدعتها الضرورة وبفضلها بقي ما تبقى من الدولة لكي تكتمل المسيرة ويعود العراق منتصراً شامخاً بإذن الله، لكنها لن تكون حالة دائمة بديلة من الدولة ومؤسساتها، وهي ليست معصومة او أفرادها من الخطأ او الوقوع تحت ردود فعل لسلوك إجرامي ترتكبه عصابات «داعش» في لحظة ما». ويوضح ان «مع دعوات المرجعية المتكررة ودعوات الحكومة المتكررة وتحذيرات الأجهزة الأمنية المتواصلة من ازدياد عناصر الجريمة المنظمة تحت غطاء الحشد، وإجراءات بعض الفصائل المسلحة بحق العناصر المسيئة، لا أزال أقر بأن كل تلك الإجراءات ليست كافية ما لم يوضع جدول زمني واضح لدمج الحشد نهائياً في مؤسسة الدولة الأمنية والعسكرية، وضمن شروط التكافؤ المذهبي والديموغرافي. لكن قبل ذلك، لا بد من الإعلان عن دائرة او مكتب متابعة تشارك فيه الحكومة وممثلو الفصائل وبإشراف مباشر من المرجعية، باعتبار ان لها الفضل في تشكيل الحشد، لتسلّم اي شكاوى بحق العناصر المتجاوزة حدود واجبات الدفاع المقدس والجهاد الكفائي ومن اي طرف كانت». في نقد «التحالف مع الشيطان» او تبريره، تكاد البلاد تحتشد بالشياطين، على أمل ان تحمل للعراقيين «الخلاص» الذي يبدو على الارض، وقد صار حلماً مستحيلاً.