شارع تسعة. حي المعادي. القاهرة. أحد أرقى الشوارع وأكثرها احتواء للمقاهي الفاخرة وبوتيكات الملابس ومحلات الفضة والأنتيكات. ملتقى للشباب والشابات ومعقل الموضات والصرعات. لكن الصرعة الأكبر التي سيظل الشارع ورواده يتحدثون عنها هي تلك اللفافة التي وجدت على الرصيف حيث كان «حسن» و»منى» يقبعان فاقدي القدرة على البكاء من كثرة ما بكيا. ثلاثة أشهر وخمسة أيام بالتمام والكمال هو عمر كل منهما يوم وجدهما رواد شارع تسعة. كانا يتضوران جوعاً وعطشاً. تركهما أحدهم هناك ورحل لينضما إلى الملايين من أطفال الشوارع، أو بالأحرى «رضع الشارع». «شيرين» كانت أكبر إلى حد ما. في سن سبعة أشهر و26 يوماً، قررت والدتها التخلص منها بتركها قرب باب مسجد. فالأم «المطلقة» دخلت في علاقة عاطفية نجمت عنها «شيرين». وحين عثرت على زوج جديد، رفض أن تكون الرضيعة جزءاً من الأسرة، فكان باب المسجد أحن عليها من والدتها. وجه آخر وقصة أخرى بطلها «وحيد» الذي تخلى عنه والده بعد ما أتم عامه الأول. «وحيد» ليس كبقية الأطفال، فهو يميل إلى العزلة، ولا يتفاعل مع الناس بسهولة. رسالة مقتضبة وصلت من الأب يقول نصها: «الفقر هزمني وهزم إبني. أيقنت أن لديه مشكلة ما تجعله غير بقية الأطفال، وهذا يعني استحالة وجوده في البيت. ربما يكون حظه أفضل مع غيري». ظاهرة مريعة هذه الوجوه وغيرها ممن كانوا وما زالوا عرضة للخطر هم جزء من ظاهرة مريعة تضرب مصر منذ ما يزيد على عقدين إسمها «أطفال الشوارع»، وهي ظاهرة غير محددة الملامح نظراً لتضارب الأرقام. فمن مليوني طفل شارع بحسب المجلس القومي للدراسات الاجتماعية والجنائية، الى ما بين 500 ألف ومليون حسبما قدرتهم منظمة «يونيسيف»، الى عشرات الآلاف في تقدير المجلس القومي للطفولة والأمومة، تعاني الدولة شحاً في المعلومات وسوءاً في تقدير الأخطار وقصوراً في رسم الخطط واستشراف المستقبل. المستقبل الجاري تشكيله في الحاضر يرى أضواء خافتاً في نهاية النفق المظلم، بجهود تبذلها الدولة للوقاية من تفاقم المشكلة، وبمشروعات وأفكار طموحة تتبناها جمعيات تهتم بتلك الوجوه الصغيرة البائسة. «وجه» هو أحد هذه الأضواء التي تسطع في سماء أطفال الشوارع. «حالة متداعية!! المواليد الجدد الذين وُجِدوا في الشوارع كانوا يُغمَسون في مياه باردة. الحفاضات المستعملة كانت تبل ثم تجفف ويعاد استخدامها. لم يكن أحد يحرك الرضع بعيداً عن أسرتهم. بعضهم لم ير نور النهار. ومنهم من كان يخبط رأسه في السرير لتمضية الوقت. آخرون بدت ملامح الانفصال عن الواقع بادية في عيونهم الصغيرة. حملت أحدهم بين يدي، وفوجئت بجسده مليئاً بالجروح والندوب. سألت عن السبب، فعلمت أن أهله حين تركوه في الشارع مكث هناك فترة تعرض فيها لعضات الكلاب والقطط. يومها ولدت فايس». «فايس» الأطفال «فايس» أو «وجه» هو إسم المؤسسة الخيرية التي تعمل لصالح أطفال الشوارع في مصر. مؤسستها صاحبة التجربة التي رأت ما يحدث لرضع وأطفال في الشوارع من هجر وتعذيب. هي البلجيكية فلافيا شو- جاكسون، أم لثلاثة أطفال، لطالما حملت هموم الأطفال الأقل حظاً في مشارق الأرض ومغاربها. لكنها ركزت جل جهدها في جهود معالجة ظاهرة أطفال الشوارع ومحاولة تخفيف آلامهم بطرق غير تقليدية، عبر متطوعين خرجوا إلى الشوارع للتواصل مع أصحاب المشكلة أنفسهم ليتعرفوا إلى احتياجاتهم الحقيقية، إضافة إلى مركز استقبال نهاري وآخر في منطقة السلام بالتعاون مع المجلس القومي للطفولة والأمومة. كما ضلعت «فايس» في تجديد وتجميل داري أيتام، دار مسيحية في حي الزيتون في القاهرة ودار إسلامية في محافظة القليوبية المتاخمة للقاهرة. قصة جاكسون مع دور أيتام مصر بدأت قبل سنوات، وتحديداً في عام 2003، حين زارت مصر سبع مرات قامت خلالها بتفقد أحوال العديد من دور الأيتام حتى تكوّن فكرة أعمق عن مشكلاتها، وكيف يمكنها المساعدة أملاً في تقديم يد العون لأولئك الأطفال الذين ينبذهم أهلهم في العادة. تقول: «هجر الأطفال تصرف يحدث لأسباب عدة، أبرزها العلاقات الجنسية غير الشرعية، إضافة إلى العنف في البيت، الإعاقة، إدمان المخدرات أو وفاة أحد أو كلا الوالدين. ومعروف أن الطفل غير الشرعي ووالدته يعانيان الكراهية والرفض من العائلة والمجتمع، ومن ثم يصبح هجر الطفل أمراً لا بد منه. ويصل الكثيرون منهم إلى دور الرعاية وهم في حالة جسدية ونفسية بالغة السوء، حيث سوء التغذية، والجفاف، والجروح، والإصابات الجلدية، والقمل، وأمراض التنفس وأخرى تتعلق بقلة النظافة الشخصية». إقامة انتقالية ورغم هذه وغيرها من المشكلات التي يتعرض لها أطفال الشوارع، ورغم تعقد الملف الملغوم مع اندلاع «ثورة يناير»، وما صحبها من أحداث وانفلاتات أمنية وأخرى اجتماعية وثالثة سياسية اتخذت من الأطفال أداة في صراعاتها، إلا أن «فايس» تمكنت خلال عام 2013 من الوصول إلى عدد أكبر من الأطفال مقارنة بالعام الذي سبقه. متطوعون يتوجهون إلى أماكن تمركز الأطفال، يتواصلون معهم، يعرفون احتياجاتهم، ويوجهونهم إما لمراكز الرعاية النهارية، أو مراكز الإقامة، أو المركز الانتقالي. المركز الانتقالي يستضيف أطفال الشوارع لمدة محددة، هي أشبه بالمرحلة الانتقالية من العيش في الشارع إلى العودة إلى المجتمع الطبيعي، سواء كان بيت الأسرة، أو مركز إقامة، أو ترتيب آخر. هؤلاء الأطفال معروفون لدى فريق المتطوعين، ويحصلون أثناء هذه الإقامة الانتقالية إما على قسط من التعليم المدرسي أو التدريب المهني، بحسب سن وميول كل منهم. وحتى حين يعود الطفل إلى بيت أهله، فإن علاقته بالمركز لا تنتهي، بل يستمر في التردد عليه من أجل الاستشارة. في «فايس» كل طفل هو حالة قائمة بذاته. التعامل يتم من خلال دراسة كل طفل على حدة. فقد تتشابه مآسي الاطفال، وقد تتساوى الشوارع التي يلجأون إليها هرباً من مشكلة هنا أو عنف هناك، لكن وراء كل طفل قصة مختلفة، تتعامل معها «فايس» بمعزل عن غيرها. منازلة الفقر وتظل عودة الطفل إلى أحضان أسرته أمراً قابلاً للحدوث أحياناً. وفي حال تم ذلك، فإن «فايس» تتابع حاله مع أسرته. وتعمل على منازلة الفقر ألذي عادة يكون السبب الأول وراء لجوء الصغير إلى الشارع، وذلك من خلال تسليم الأهل، غالباً الأم، منحة تبدأ من خلالها عملاً أو مشروعاً صغيراً يدر دخلاً يقي الطفل خطر الإجبار على العمل والحرمان من التعليم، لا سيما في القرى. «فايس» تعمل في مصر من أجل ومع أطفال الشوارع. تعمل مع مجتمعاتهم أملاً في خلق بيئة واقعية ومبتكرة ومستمرة تضمن بقاءهم في الحياة الآمنة. لكنها في الوقت نفسه، لا تعطي أو تعمل مع الأطفال بغرض إراحة الضمير، بل تعمل من أجل إراحة الأطفال، وراحة أولئك في إمدادهم بأسلحة العلم والمعرفة والتدريب وليس مجرد سلاح المال الآني الذي يديم الفقر وينهي الأمل.