بينما كانت مئات الأطنان من المياه الملوثة بالاشعاعات النووية تتسرب من بقايا محطة فوكوشيما اليابانية، التي ضربها التسونامي قبل سنتين، كان آلاف البشر يقتلون بالتسمم الكيماوي على أطراف دمشق. القتل النووي والكيماوي متشابهان في أنهما صامتان، حيث يتسلل الموت بلا جروح وكسور ودماء. التشابه بينهما لا يتجاوز حدود الموت الصامت. وفي حين تسببت عناصر الطبيعة والخطأ البشري في كارثة فوكوشيما ومضاعفاتها المستمرة، فالذين قتلوا البشر بالسلاح الكيماوي كائناً من كانوا، فعلوا هذا عن سابق تصور وتصميم. والضحايا في كلا الحالين البشر والبيئة. بعد سنتين على الكارثة النووية في فوكوشيما، روّجت السلطات الرسمية والصناعات النووية أن الوضع تحت السيطرة والمضاعفات تم احتواؤها، ليتبين أن هذا الكلام ما كان إلا تزويراً للحقائق. آلاف الأطنان من المياه تم استخدامها خلال السنتين الماضيتين لتبريد المفاعلات النووية المتوقفة عن العمل. وتم بناء نحو ألف خزان لاستيعاب المياه الملوثة بالاشعاعات النووية. الشهر الماضي تبين أن مئات الأطنان من المياه المشعة تسربت من الخزانات الى المياه الجوفية والبحر. والكارثة لن تتوقف هنا، إذ إن تبريد المفاعلات ما زال يتطلب 400 طن من المياه يومياً، تتحول بعدها الى مياه مشعة تحتاج الى تخزين. الخزانات الموجودة وصلت الى 85 في المئة من قدرتها الاستيعابية، وهي تعاني تشققات أدت الى التسرب. كما يتخوف الخبراء من خطر تصدعها كلياً وتسرب محتوياتها المشعة في حال حصول زلزال أو تسونامي، ولو على درجة أقل مما حصل عام 2011. المياه المشعة من محطة فوكوشيما مشبعة بالتلوث الى درجة أنه إذا وقف إنسان بقربها لمدة ساعة واحدة، فهو يلتقط كمية من التلوث الإشعاعي تبلغ خمسة أضعاف ما يتعرض له العمال في المحطات النووية خلال سنة كاملة. وإذا وقف إنسان قرب هذه المياه المشعّة لفترة عشر ساعات، يصاب بعوارض مرضية إشعاعية تراوح بين الغثيان والانخفاض في كريات الدم البيضاء. صحيح أن النشاطات البشرية عامة، بما فيها إنتاج الكهرباء بأية وسيلة، أكانت من النفط أو الغاز أو الفحم أو المياه أو الرياح أو الشمس، عرضة لمخاطر الحوادث. لكن هذه حوادث مرتبطة بمكان وزمان معينين، وتنتهي مع الضحايا الذين تقتلهم أو تصيبهم. أما الحوادث النووية فلا نهاية معروفة لها، إذ إن الاشعاعات تستمر آلاف السنين وتنتقل في الهواء والتراب والمياه عبر حدود لا يمكن التكهّن بخطوطها. ويتشابه التلوث الكيماوي مع التلوث النووي في مساحة انتشاره واستمرار آثاره لفترة طويلة، مع أن هذا لا يقارن بالطبيعة المفتوحة للتلوث النووي. لا جدال في أن انتاج الكهرباء بالطاقة النووية يبقى خياراً لا يمكن تجاوزه عند البحث في تنويع مصادر الطاقة. لكن كارثة فوكوشيما المستمرة تُذكّر من جديد بضرورة عدم الاستسهال والحيطة. فكلفة إنتاج الكهرباء النووية لا تقتصر على بناء المفاعلات وتشغيلها، بل تتجاوز هذا الى تكاليف معالجة النفايات المشعة الناجمة عن التشغيل العادي، والتسربات الإشعاعية في حالات الحوادث الناجمة عن خطأ بشري أو عناصر الطبيعية. ويبقى تخزين النفايات المشعة من أبرز ما يواجه الصناعة النووية، كما ظهر في الولاياتالمتحدة، التي كانت أول بلد في العالم بدأ إنتاج الكهرباء بالطاقة النووية عام 1951. فبعد عقود من الأبحاث والتكاليف التي تجاوزت العشرة بلايين دولار، اضطُرَّت إدارة أوباما الى إلغاء مشروع بناء مخازن دائمة للنفايات النووية في جبل يوكا، بسبب عوائق تكنولوجية وطبيعية. وإلى أن تتمكن من إيجاد حل مقبول لتخزين النفايات المشعة، تدعم الحكومة الأميركية الصناعات النووية ببلايين الدولارات سنوياً لمساعدتها في التخزين الموقت للنفايات. إن أبرز الحجج التي يسوقها داعمو الطاقة النووية هي أنها تساعد في تخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وهذا صحيح. لكن عند وضع حسابات التكاليف، يجب المقارنة بين تكاليف ثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري مع تكاليف تخزين النفايات النووية المشعة، إضافة الى تكاليف معالجة أضرار الحوادث النووية على البشر والطبيعة. وأي حساب آخر يبقى تبسيطياً لا يأخذ جميع العوامل الواقعية في الاعتبار. على الدول الساعية للانضمام الى ما اصطلح على تسميته «النهضة النووية» أن تأخذ من كارثة فوكوشيما المتواصلة عبرة عند دراسة حسابات الربح والخسارة. * الامين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية [email protected] www.afedmag.com