ليس هذا هو السؤال... لا يقترب حتى من جوهره، فمشهد اختناق أطفال الغوطة السورية، ينتمي إلى اختناق حلبجة العراقية، إلى كل ذلك التاريخ من علامات الاستفهام المقلوبة والمراوغة عن الذي قُتل والذي قَتل. يُطمر الضحايا بعد حين، ويجد المحقق الأممي مبرراً للقول بفخامة: «إن هناك جريمة ما حدثت في هذه الأرض»... ويرحل. عندما سقطت حلبجة كانت «الأمة» ترى المشهد بعين انحيازها، من السهل أن تقنعها براءة «القائد الملهم»، من السهل عليها أن تتداول الحكاية مسترخية في الصالونات والمقاهي، أو غارقة في التأويل. «إيران هي من أطلق براميل السارين على أزقة حلبجة»، فرواية «الزعيم» مقنعة ووافية وكافية لإغلاق المشهد برمته وإقصائه حتى من الذاكرة. هي حرب لا تحتمل إلا الحق والباطل، وإيران هي «الباطل المطلق». لكن «السارين» لا يعترف بهذه النظرية، فهو يتسلل عبر الخنادق المتداخلة، ولا يسمح لطرف بالتحكم بخياراته، وأحياناً يقرر تغيير وجهته راكباً الريح، فيرتد إلى مطلقيه. في الغوطة كما في حلبجة يتم التغاضي عن سؤال منهجي: «لماذا استخدم الكيماوي؟». إنه مؤشر لنهاية وبداية، فهو إنهاء لقواعد الاشتباك التقليدية، وتأسيس قواعد جديدة أو للاقواعد، وهو قرار مشترك بين المتحاربين، ونقطة حرجة في تاريخ الحرب تؤكد أن الطرفين تجاوزا معاً فكرة «اللاغالب واللامغلوب» و «المنتصر والمهزوم» إلى «الباقي والفاني». رشت الطائرات العراقية بعد حلبجة بشهور، دقيقاً أبيض على القرى الكردية تمهيداً لاقتحامها، فهرب الناس ظناً أنها «كيماوية» جديدة. كان استثماراً مرعباً في «المجزرة» ولعبة جربها النظام مراراً عندما استخدم «السارين» من المحمرة إلى قصر شيرين. فتحت إيران أبوابها للإعلام الدولي نحو حلبجة، سوقت لنظرية الدولة الظالمة والمظلومة، المُرتكِبة والمرتكَب بحقها، لكنها في هذه الأثناء كانت تستخدم «السارين» من نهر جاسم إلى مندلي. ضاعت حلبجة في حمى الاستثمارات المتبادلة، دفنت ضحاياها بصمت وريبة، وما زالت تحاول فهم ما حدث. لم يسأل الأميركيون صدام حسين بشكل حقيقي عن قصة حلبجة حتى لحظة تسليمه إلى المقصلة، ولا يفضلون أن يسألوا بشار الأسد اليوم عن الغوطة، فهناك أسئلة أهم، مثل «من سيدفع الفاتورة، ومن سينتصر، وكيف سينتصر، وبأي طريقة؟». في باب الرومانسية الأخلاقية فقط، يتم تصنيف السؤال عن «كيف وصلت الأسلحة الكيماوية إلى صدام حسين والخميني»، و «كيف وصلت إلى الأسد ومعارضيه». لكنه ليس سؤالاً تأويلياً، فوجوده ضروري على أية حال لفهم حدود الاستثمار السياسي والطائفي والعسكري في «المجزرة». المجتمع الدولي سينتظر نتائج التحقيق في الغوطة. سينتظر نتائج التحقيق في حلبجة وهو تحقيق للتاريخ وربما لأجيال قد تجد نفسها أسرى التأويلات والأدلة المطموسة. المعايير الأخلاقية الدولية، مدهشة حقاً، فهي تشبه سباق أولويات مشروط، بين محاكمة المجرم أو إنقاذ الضحية، لكن الضحية سممت تراب قبرها، ماتت الأفاعي عندما اقتربت منه، واختنقت قبائل من الدود في شقوقه، ومحاكمة حقيقية للمجرم لن تتم!. المجرم بدوره سيبقى كائناً افتراضياً، فهو يدور في فوضى الحسابات المتبادلة المختلطة بذهنية المؤامرة: «لماذا يستخدم الأسد الكيماوي ليعجل نهايته؟»، فتكون الإجابة: «الأسد يريد إبلاغ معارضيه أنهم تحت سقف إمكانات جيشه»، أو «لماذا يستخدم المسلحون الكيماوي لقتل أنصارهم؟»، والإجابة: «ليدينوا نظام الأسد وينهوا المعركة دولياً». لكن تلك لعبة ذهنية أكثر منها محاولة لبحث الحقائق على الأرض واستخراج بطاقة الإدانة. ما زالت الولاياتالمتحدة متمسكة حتى هذه اللحظة بفرضية أن اليابان الامبراطورية تتحمل أخلاقياً نتائج مجزرتي هيروشيما» وناكازاكي، وتستند إلى تعريف الحرب قبل تعريف المجزرة، وإلى النظرة الشمولية والتاريخية للجاني والضحية، أكثر من الوقائع. ومع هذا فباراك أوباما يطالب بالوقائع، يهمل الحرب وتاريخها، أسبابها ونتائجها، ويبحث عن سؤال محدد: «من الذي استخدم السارين»؟. ليس هذا هو السؤال! لا يقترب من جوهره حتى... فالغوطة اختنقت، وقبلها حلبجة، والسؤال الأكبر اليوم مفاده: كيف يتجنب الضمير الإنساني غوطة أخرى، بعد أن فشل في تجنب حلبجة ثانية؟.