تبنى السياسي العراقي أحمد الشلبي أخيراً مطلب تشكيل دولة «كونفيديرالية» جديدة تضم العراق وسورية، واعتبر أن تلك الدولة هي الحل الأمثل لأزمات المنطقة برمتها. لم تكن طروحات الشلبي الجديدة مفاجئة على أية حال، ليس على مستوى خلفيات وتجارب «المشروع القومي العربي» الذي ساد منذ خمسينات القرن الماضي، بل لأن الشلبي نفسه سبق وتبنى أفكاراً مختلفة، منها مشروع التحالف الشيعي – الأميركي، ومن ثم البيت الشيعي، وأخيراً فكرة «منطقة قلب العالم» التي افترض أنها تتكون من العراق وإيران وسورية وتركيا. لكن طروحات الشلبي تتزامن مع إعلان زعيم «قاعدة» العراق أبو بكر البغدادي ما أسماها «دولة الإسلام في العراق والشام» وإن كانت تختلف في افتراض شكل الدولة المقترحة وأسلوب إدارتها وأغراضها بين الرجلين. فالشلبي يقترح أن تكون الدولة الجديدة مناسبة لتغيير ديموغرافي في تعريف المكونين السنّي والشيعي في المنطقة، فهي تؤصل توازناً سكانياً وإن كانت تطرح مشكلة الحكم وحق أي طرف به. ويمكن الافتراض أن الشلبي يفكر بمستقبل الوجود الشيعي في سورية ولبنان ما بعد زوال نظام الأسد، ويقر ضمناً بأن سورية الغد لن تكون سورية اليوم ولا الأمس، وربما لن تكون سورية حتى، وهذا التهديد يواجه العراق نفسه الذي أضاع في دوامة صراع الطوائف الطريق إلى هويته. أما البغدادي فإنه يفكر في المقابل بمستقبل سنّة العراق ووجودهم من زاوية التفكير بوجود تنظيم «القاعدة» ومستقبله وطموحاته، وقدرته على إكمال مشروعه عبر شن حرب وجود على الشيعة في العراق والمنطقة كمبرر لقيام دولته. يمكن القول إن الشلبي الذي يعد من أكثر العقول السياسية العراقية القادرة على قراءة الأحداث من زوايا مختلفة وغير متوقعة، وإن كان لم يحقق فوائد سياسية وشعبية كبيرة من قراءاته المختلفة السابقة، يحاول إعادة صوغ مفهوم الغالبية والأقلية استناداً إلى وقائع مختلفة تماماً عن تلك التي اقترحها عام 2004 عندما أطلق مشروع البيت الشيعي الذي تحول سياسياً إلى «الائتلاف الوطني العراقي» ثم «التحالف الوطني العراقي» ومضمونه الأساسي هو ترجمة الغالبية العددية للشيعة في العراق إلى واقع سياسي. ولا بد من افتراض أن تجربة 10 سنوات من التغيير في العراق، والتطورات الهائلة التي حدثت في المنطقة منذ أكثر من عامين، أثبتت أن الحلول الداخلية لأزمات الحكم وتعريف «الطائفة الحاكمة» لن يتم بمعزل عن الصيرورات الإقليمية برمتها، وأن تشابك الأحداث وتداخلها يفرض التفكير بآليات مختلفة عن تلك التي تعتمد الحدود الوطنية معياراً لإثبات الحكم المستند إلى مفهوم «الغالبية المذهبية». ومن الغريب أن يتجه الشلبي إلى افتراض أن توسيع دائرة الصراع المذهبي يمكن أن يحقق «توازن الرعب» بين المذاهب فيفرض حلولاً، فتلك النظرية وإن كانت قابلة للنقاش على الورق، إلا أنها مستحيلة عملياً، ناهيك عن كونها يمكن أن تفتح الصراع إلى مرحلة صدام خارج الحدود الدنيا من «قواعد الاشتباك المذهبي». وتلك الجملة الأخيرة، قد تكون جديرة بالاهتمام، فزعيم «القاعدة» العراقي أبو بكر البغدادي يصنف باعتباره أخطر الزعامات التي تولت رئاسة هذا التنظيم، وربما يكون أكثر خطورة من زعيم التنظيم الدولي أيمن الظواهري، عبر تبنيه منهج تحطيم «قواعد الاشتباك» بالكامل. دولة البغدادي العراقية - السورية، هي في حقيقتها دولة حرب إبادة ضد الشيعة في البلدين، وضد السنّة المخالفين لل «قاعدة» وهم بالنسبة إلى أدبيات التنظيم «عملاء» و «صحوة» و «مارقون». وقائمة أعداء البغدادي العراقيين لا تختلف كثيراً عن قائمة أعدائه السوريين، ولهذا فالفرصة مناسبة لتدمج الخنادق، وحسم المعركة خارج القواعد. والبغدادي الذي يفتح الحدود نظرياً بين العراق وسورية، يحاول فتحها عملياً أيضاً، معتمداً على الوحدة الجغرافية التي يمكن أن تشكل جوهر دولته الافتراضية، والتي ستكون قلبها النابض. لا ينظر زعيم القاعدة الى العراق او سورية كدول، فهما ولايتين في مرحلة حرب، نتاجها ولايات جديدة تتجاوز حدود البلدين معاً. الجغرافيا السكالنية التي تشكل مصدر قوة لأفكار البغدادي، لا تخدم كثيراً فكرة الشلبي. فالأول يتعامل مع الجغرافيا من زاوية الامتداد السنّي بين جانبي الحدود، وينظر إلى الكتلة السنّية التي ستتشكل نظرياً من الاندماج كقوة بشرية هائلة، لا تحقق التوازن مع القوة الشيعية في «أطراف» الدولة الجديدة فقط، بل تحيلها إلى مصطلح «الجيوب» التي يتم معالجتها عبر حرب الإبادة المعلنة. الشلبي يفكر من زاوية مختلفة، فالجغرافيا السكانية تخدم شيعة العراق، فهي في ترجمة أكثر واقعية لنظريته تحسم هوية البلد شيعياً، في مقابل القبول بهوية سنّية لسورية. لكن «السنّة» و «الشيعة» في نظريتي البغدادي والشلبي يبدوان كمصطلحين أصمين، خارج منطق التفاعل الداخلي، وهما بالضرورة محكومان بالصراع. الحراكات الجوهرية في توجهات الشعوب وخياراتها لا تتم قراءتها وفق هذا التجريد للمفاهيم والمصطلحات، وبمعزل عن تحديات الصراعات والتفاعلات السنّية – السنّية من جهة، والشيعية – الشيعية من جهة أخرى، وأيضاً ليس بمعزل عن تلك الطبقات المقاومة للتصنيف التي تحاول على ضعفها إيجاد مساحة لها في المستقبل. ولا يمكن الحديث أيضاً خارج الرؤية الإقليمية للصراع، فإيران تعتقد أن سورية التي تمثل امتداداً للشيعة يتم ابتلاعها من دول سنّية مثل تركيا والمنظومة الخليجية، وتركيا ودول الخليج تعتقد في المقابل أن العراق الذي ينظر إليه كحصن للسنّة يتم ابتلاعه من إيران الشيعية. والحل الذي يقترحه الشلبي يختلف من هذه الزاوية عن حل البغدادي، فالأخير يحاول استثمار هذا الصراع ليس لدعم منظومة إقليمية في مقابل الأخرى، فهو ينظر إلى المنطقة برمتها ودولها وأنظمتها باعتبارها «دار حرب» لكنه يجد أن ذلك التقاطع التاريخي حول «الابتلاع» و «مقاومة الابتلاع» لحظة تاريخية ليس من السهل تكرارها للخروج بواقع جديد تمثله هذه المرة «دولة القاعدة» التي قد تزداد فرصها كلما زاد الاختناق في العلاقات السنّية - الشيعية سواء داخل العراق وسورية أو على مستوى المنطقة برمتها. إنها لحظة حرجة باعتقاد البغدادي لتغيير الخريطة، كما هي مناسبة لتأصيل العداء ونقله من صفحات التاريخ إلى خنادق المواجهة، على الأقل عندما يتوصل سنّة المنطقة إلى أن «دولة القاعدة» أقل ضرراً من «دولة الشيعة». ولكن الشلبي ينطلق من رؤية مختلفة تماماً، فدولة الشيعة بالنسبة له ليست إطاراً عقائدياً، فهو يدرك مثلاً أن إيران تسعى طبيعياً إلى هذه الدولة كمجال حيوي لنفوذها، ويدرك أن إيران لا تفكر من منطلق كونها «دولة شيعية»، بل «دولة تاريخية» وكاقتصادي يعتقد أن النفط كمعادل موضوعي للدولة ما زال يتركز في الجغرافيا الشيعية، وأن الإقليم العراقي في الدولة الجديدة سيكون أكثر قوة ونفوذاً من الإقليم السني، ما يتيح إعادة قراءة توازنات القوة على مستوى المنطقة استناداً إلى المتغير الذي تفرضه الدولة الجديدة، وهو متغير يتكامل مع نظرية «قلب العالم» التي روج لها قبل حوالى عامين. المؤسف أن كل تلك الطروحات تنطلق من «اللادولة»، والمؤسف أكثر أنها تعمق قناعات تتبلور اليوم بأن نتاج الحروب المتنقلة في العراق وسورية، سينهي وجود الدولتين من الخريطة، وربما في أحسن الاحوال سينتج خريطة شديدة التنوع والضعف والتآكل من الدويلات والأقاليم والممالك. لكن التفكير في إنقاذ البلدين من هذه المصائر المرعبة، لا بد من أنه يكمن في داخلهما. في المتبقي من خصوصية الشعبين، وقدرتهما على إنتاج معادلات تعايش، لا تضطر إلى فتح الحدود أو اختراع حدود جديدة، التوزيع المعقد للسكان وتضارب المصالح والارتكابات التي من الصعب تداركها والتأثيرات العميقة للخارج، جعلت التفكير بالفناء واستحداث نظريات ما بعد الفناء، متاحاً، ويسيراً، لكنه ليس قدراً في النهاية، فالشعوب التاريخية ما زالت قادرة على تشكيل أقدار مغايرة.