في تونس وفي مصر، اعتبر الجيش أنّ الرئيس هو العائق الأكبر الذي يقف في وجه مصالحه وبقائه. لكن المسؤولين عن الأمن في دمشق لا يستطيعون التضحية بالرئيس بشار الأسد من أجل إنقاذ النظام لأنّه لم يكن لديهم معنى للحياد المهني عند أدائهم القَسم العسكري ل «حماية البلد والشعب». لم تمضِ سورية في اتجاه إقامة «الدولة العميقة» التي تحمي المبادئ الدستورية أو الجمهورية، بل ظلّت واحدة من الجمهوريات الوراثية الثلاث في العالم إلى جانب كوريا الشمالية وجمهورية الكونغو التي تتجاهل الفرق بين الحكم الوراثي وطبيعة النظام الجمهوري الحديث. النظام السوري أعلن إلغاء قانون الطوارئ بعد نصف قرن ثم تعامل مع التظاهرات السلمية بالعنف الجماعي المفرط، كَأنه يريد أن يظهر أنّ هذا القانون لم يكن يعني شيئاً أصلاً. لكن، فيما اتبع بشار الأسد المبادئ الميكيافيلية التي اعتمدها والده، ساهم التكتيك الذي تبناه في تدمير سورية إلى حدّ كان يخجل من القيام به حافظ الأسد نفسه. في شهر آذار (مارس) 2011، حاولت الاستخبارات السورية والقوات غير الرسمية كسر ظهر الحراك السلمي بالعنف مع الحدّ من عدد الضحايا الذين يسقطون في اليوم بين 20 و30 شخصاً. في الوقت نفسه، وقف الجيش على خطوط التماس لضمان السلام العام. هدف هذه اللعبة المزدوجة هو إظهار قدرة النظام على ممارسة العنف الجماعي وقدرته على السيطرة عليه في آن واحد. لكن هذا الأمر ساهم في تغذية دوامة من القمع والاحتجاجات خلال تشييع القتلى التي تحوّلت إلى حركة ثورية شاملة. وفي ظل هذا المشهد، حاولت «الدولة العميقة» التابعة لبشار دفع المعارضة إلى الدخول في نزاع مسلّح تمكن إدارته في شكل أفضل سياسياً والفوز فيه عسكرياً. وفور بروز المجموعات المسلحة لحماية المدنيين والممتلكات والأحياء وعقب دعوة «الجيش الحر» الجنود والضباط إلى احترام القَسَم العسكري الذي أدّوه لحماية المواطنين السوريين في 29 تموز (يوليو) 2011، دخلت وحدات النخبة في الجيش إلى أحياء المدن بالدبابات والرشاشات الثقيلة. ويدلّ التصعيد باتجاه «الحلّ العسكري» خلال شهر رمضان من عام 2011 إلى أنّ الجيش انتقل إلى حرب غير متكافئة لم يكن معداً لها وليس بارعاً فيها. وفيما راح الجيش ينظّم صفوفه لمواجهة تكتيك الكرّ والفرّ، بدأ الانقسام السياسي والأخلاقي يصدّعه من الأسفل إلى الأعلى، مع العلم أنّ نشر الوحدات ذات الكثافة السنّية على حواجز التفتيش أو الخطوط الأمامية أدّى إلى حصول سلسلة من الانشقاقات. وبما أنّ 70 في المئة من جنود الجيش السوري هم من السنّة، لم يكن باستطاعة النظام سوى الاعتماد على ثلث وحدات الجيش. وبهدف تفادي خسارة وحدات أو كتائب بكاملها في الميدان، احتجز النظام آلاف الجنود السنّة في ثكناتهم وأمر عناصره الذين دسهم بينهم بإطلاق النار على كل شخص، بمن فيهم كبار الضباط، لمجرّد الاشتباه في أنهم على وشك الانشقاق. وفي ميدان المعركة، كانت وحدات النخبة من جيش النظام تستولي على معقل للثوار وتنتقل للاستيلاء على معقل ثان. لكن، بعد مغادرة الثوّار، كانت هذه الوحدات عاجزة عن التجوّل في هذه المناطق من دون دعم السكان المحليين. فلم يكن الجيش يملك ما يكفي من الرجال لإجراء «عمليات مسح ومراقبة» وبات مرهقاً. محلياً، تمّ حشد أعضاء حزب البعث والأقليات لتسيير الدوريات مما يسميه النظام «اللجان الشعبية». فضلاً عن ذلك، أطلق النظام سراح مجرمين محكومين وأطلق أيديهم لاستخدام العنف والإجرام ضد المواطنين، كما شجع الشبيحة على استخدام أي نوع من أنواع العنف من أجل ترهيب السكان وإهانتهم لإرغامهم على الاستسلام. وخرجت وحشية النظام عن سيطرة الجميع، الأمر الذي أظهر المعضلة الأساسية للحرب غير المتكافئة، وهي في حال لم تنجح في فصل المحاربين عن المدنيين، سيتحول الشعب بكامله إلى عدوّ. خلال شتاء عام 2011 - 2012، وصل الصراع بين قوة الثوار المتنامية وقوة السلاح المرعبة للنظام إلى طريق مسدود، ما تسبب بقلق كبير في أوساط الموالين للنظام. شعر عدد كبير من الضباط أصحاب الرتب الصغيرة والمتوسطة بأن بشار كان متساهلاً جداً وأنه كان يجدر به أن يتصرف بقوة أكبر منذ اليوم الأوّل. وعززت هذه الضغوط قراءة كبار الاستراتيجيين للوضع الذين رأوا أنه لن يتمّ حصول تدخّل غربي، فيما أثّر الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على الأسلحة في الثوّار فقط، حيث إن النظام لا يستورد أسلحة من الاتحاد الأوروبي أساساً. كما أنهم كانوا يتوقعون أنّ الدعم العربي للمعارضة قد يتقلّص وأن التعهدات العربية غالباً ما تكون مبالغاً بها وأن الدعم الحقيقي لا يتجاوز مستوى الوعود الكلامية. أما الحكومة التركية، فكانت قوية في الكلمات وضعيفة في الدعم العملي، فيما كان الإيرانيون على عكس ذلك. وأصبح وجود الجهاديين الأجانب أكثر وضوحاً، الأمر الذي من شأنه تأكيد الشائعات التي روج لها النظام في هذا الصدد، بالتالي يتطلب سحق الانتفاضة تطبيق القوة المطلقة. في شهر شباط (فبراير) 2012، بدأ النظام باستخدام المدفعية الثقيلة في النزاع، أولاً في الزبداني قرب دمشق وبابا عمرو في حمص، لاختبار رد الفعل الدولي من ثمّ تدريجاً في جميع أنحاء البلد. من الناحية العسكرية، كان ذلك عبارة عن عملية ل «مكافحة التمرد مركزة على الشعب». وبدلاً من إخراج الثوّار من المراكز السكنية في المدن، تمّ إخراج السكان من المناطق التي استولى عليها الثوّار. وكان هدف بشار إيجاد أزمة لاجئين كبيرة من شأنها استنزاف موارد المعارضة وتحويل تركيزها نحو توفير المساعدة لهم. ويهدف النظام من سياسة المعاقبة الجماعية هذه للسكان المدنيين ووضعهم في مواجهة الإفناء الجماعي، إلى إجبارهم على اتخاذ موقف ضد الثوار. ومع تزايد عديد «الجيش الحر» وقدراته، أحرز تقدماً غير متوقع خلال ربيع عام 2012 وقطع خطوط الإمدادات على النظام وقلّص من حركة تنقل الجيش. ووفقاً لقناعة النظام أنه يخوض حرباً شاملة، فقد عوّض النظام عن القوات التي يفتقر إليها على الأرض عبر اللجوء إلى القوة الجوية أولاً باستخدام الطائرات المروحية من أجل معاقبة القرى المحيطة في إدلب (شمال غرب) والرستن قرب حمص، ومن ثمّ الطائرات النفاثة لشن هجمات على الأهداف العسكرية والمدنية. وشكّل الانفجار الذي وقع في مبنى الأمن القومي في دمشق في تموز 2012، نقطة تحوّل بالنسبة إلى النظام لأنه قضى على استراتيجيين «معتدلين» كانوا يفضلون «الحرب المحدودة» من أجل إرهاق الثورة. واعتمد الأشخاص المسؤولون عن اتخاذ القرارات المحيطون ببشار التكتيك نفسه الذي استخدمته روسيا في الشيشان، أي تقليص القتال على الأرض وتدمير كلي للبيئة التي تبقي «الجيش الحر» في أمان. وفي خريف عام 2012، استخدم النظام قوة مدفعيته وقوته الجوية بالكامل، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كبير في عدد الضحايا وإلى إفراغ مناطق كاملة من سكانها. وحين توجّب على النظام سحب قواته من شمال سورية وشرقها من أجل تعزيز صفوفه على طول الرواق الممتد من دمشق وحمص وصولاً إلى ساحل البحر المتوسط، تحوّل تكتيكه إلى أسلوب «الأرض المحروقة» التي تستهدف عمداً أي بنية تحتية مدنية «خفيفة»، مثل المياه والكهرباء والمخابز ومخازن الحبوب والمستشفيات والمدارس. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) 2012، استخدم بشار الصواريخ الباليستية التي سوّت أحياء بكاملها بالأرض بهدف منع «الجيش الحر» من توفير خدمات أساسية للسكان في مناطقه، حيث إنه وحتى لو حرّر مقاتلو المعارضة الأرض، فإنهم سيخسرون السكان ومقومات حياتهم التي دمرها النظام في شكل ممنهج. في بداية عام 2013 تم إنهاء عملية استبدال معظم الجنود السنّة بعلويين ما أدى إلى تفكيك الجيش على أسس طائفية. وبتوجيه من إيران، اعتُبرت الميليشيات غير النظامية «قوات دفاع وطنية» محترفة وتمّ دمجها بالوحدات التقليدية. وبذلك تعزّزت صفوف الجيش بنسبة الثلث، إلا أنه تمّ حل سلسلة القيادة المركزية وتحويلها عملياً إلى هيكل قيادة متعددة الجنسية. كما أفسحت بنيتها القديمة المجال أمام بروز كتائب وألوية جديدة مختصة في حرب العصابات وحرب المدن، بالتالي تمكّن جيش النظام السوري من حماية نفسه كمؤسسة والمحافظة على اسمه الرسمي، لكنه في الحقيقة يخوض قتالاً طائفياً ويقمع أي سوري وينزل عقاباً جماعياً بالسنّة بما في ذلك تدمير وسائل الحياة الأساسية كالمحاصيل والأراضي الزراعية والبساتين والحيوانات. ومع انخراط «حزب الله» و «لواء أبو فضل العباس» والحرس الثوري الإيراني رسمياً في النزاع خلال صيف عام 2013، باتت معركة سورية الداخلية حرباً طائفية دولية سيتمّ خوضها حتى الرمق الأخير في السنوات المقبلة. وبهدف الحفاظ على سلطته، لم يتردّد بشار في التضحية بالمقاومة العربية والإسلامية في وجه إسرائيل وفي تدمير مدن سورية ذات تاريخ عريق وفي القضاء على هويته الوطنية ونسيجه الاجتماعي وفي تحويل بلده إلى ملعب للمصالح الخارجية وساحة حرب بشعة تُستخدم فيها مواد كيمياوية سامة. وفي هذا الإطار، خان العمل الوطني لوالده وشوّه سمعة العلويين بنظر العالم والتاريخ. * كاتب وأكاديمي سوري