منذ اندلاعها قبل ثلاثة أعوام تقريباً بدت ثورات «الربيع العربي» واعدة جداً، وتبشّر بغد أفضل للمجتمعات العربية، لا سيما مع سقوط نظامَي زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر، في فترة زمنية قصيرة، وبأكلاف بشرية ومادية قليلة. وفي حينه كانت الثورات العربية التي شملت بلدان تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، حدثاً مدهشاً وغير مسبوق في تاريخ مجتمعات هذه المنطقة، التي عاشت في ركود وفي حالة إخضاع سياسي منذ مئات السنين. وبالمحصلة، فقد استطاعت هذه الثورات، مع كل مشكلاتها وثغراتها، إحداث متغيّرين اثنين لا بد منهما للدخول في السياسة، أولهما كسر الجوزة الصلبة للاستبداد، المتمثل بالطغم الحاكمة المستبدّة، التي سعت إلى تحويل بلدانها إلى نظم حكم وراثية، بواسطة تحكّمها بالثروة والسلطة وبالمجال العام، وهذا ليس مجرد تفصيل ثانوي. وثانيهما، صعود الشعب إلى مسرح التاريخ كفاعل، وكسيد على مصيره، بعد قرون من التهميش والحرمان من الحقوق والحريات، ما يبشّر بالتمهيد لقيام دولة المواطنة والقانون والمؤسّسات، قبل الديموقراطية. المشكلة أن الآمال، أو اليقينيّات التي انبنت على سرعة سقوط نظامي بن علي ومبارك وسهولتها في شأن تحقيق ثورات نموذجية، أي نظيفة وقليلة التكاليف وكاملة الإنجاز، سرعان ما تبدّدت وتكشفت عن توهّمات، إذ بات الواقع أكثر تعقيداً مما يبدو، سواء بسبب طريقة إسقاط نظام معمر القذافي وكلفته وتداعياته، أو بسبب مآلات الثورة اليمنية، وأيضاً بسبب الكلفة البشرية والمادية والأخلاقية الباهظة جداً للثورة السورية. هكذا بدا أن وعود «الربيع العربي» معرّضة للتصدّع، بخاصّة مع ظهور أعراض أخرى يخشى في حال استمرارها وتفاقمها من أن تثير الشبهات حول الثورات، وربما أخذها خارج مقاصدها، وهذه تتمثل أولاً بتحوّلات ثورة السوريين نحو العسكرة، التي نشأت بداية كردّة فعل اضطرارية على انتهاج النظام للعنف المفرط، والتي طغت على الحراكات الشعبية، بدفع من المداخلات الخارجية المريبة والمضرّة، ما نجم عنه صعود التيارات الإسلامية المتطرّفة، التي باتت تغطّي على مشهد الصراع الجاري في سورية، باعتباره ثورة من أجل التغيير الديموقراطي. ثانياً، التطورات الحاصلة في مصر، والتي تثير المخاوف بشأن احتمال أخذ الجيش للسلطة، وإجهاض المسار الديموقراطي، وانتهاج سياسة استئصالية إزاء أحد المكونات السياسية للمجتمع المصري. وثالثاً، ضعف إدراكات القوى السياسية، الاسلامية والعلمانية والليبرالية والقومية واليسارية، المتصدّرة للثورات، لأهمية تحميل الفكرة الديموقراطية بالفكرة الليبرالية، المتعلقة بالحريات الفردية والسياسية ومفهوم المواطَنة والتمييز بين نظام الحكم والدولة. رابعاً، الافتقاد للعقلانية السياسية في علاقات التيارات السياسية العربية، باختلاف تلاوينها، والتي تصرفت بعقليات أيديولوجية مغلقة، ونقلت الصراع إلى الحيّز الهوياتي، بحيث بات الصراع بين تيار وآخر وكأنه صراع صفري على الوجود، وهذا ما فتح المجال أمام التلاعب بهذه الثورات، لحرفها عن مقاصدها. خامساً، بيّنت الثورات العربية هشاشة الحداثة العربية، التي بدت وكأنها مجرّد معطى خارجي، ذلك أن الثورات العربية وضعت المجتمعات العربية أمام ذاتها إزاء حقيقتها واختلافاتها ومشتركاتها، بطريقة فجائية وصادمة وعنيفة ومكلفة ومؤلمة، ما حمّل هذه الثورات، إلى مهمة التغيير الديموقراطي، مهمةَ إعادة بناء الهويات والإجماعات الوطنية بناء على معطى داخلي هذه المرة. سادساً، بقدر ما كشفت هذه الثورات عن هشاشة المجتمعات العربية وضعف إجماعاتها، فإنها بينت أيضاً مدى انكشافها وضعفها إزاء الخارج، الذي يبدو انه ما زال يملك قوة التأثير باعتباره أحد العوامل المحدّدة للدول، وربما للإجماعات المجتمعية أيضاً، وهذا بالتأكيد نتيجة للاستبداد الذي أضعف هذه المجتمعات وهمّشها طوال العقود الخمسة الماضية. فضلاً عن كل ما تقدم، ربما يجدر بنا التنويه هنا إلى أن التأثّر في ما بين الثورات العربية لم يكن كله إيجابياً، فثمة تأثّرات سلبية أيضاً، وضمن ذلك تأثّر الثورة السورية في بدايتها بالتجربة الليبية، إذ إن هذه نمّت الأوهام عند بعض الأوساط السياسية والشعبية بشأن إمكان تدخّل خارجي، على غرار ما جرى في ليبيا، ما يرجّح كفّة الثورة في مواجهة النظام، وهو ما شجّع أيضاً على تنمية البعد العسكري على حساب البعد الشعبي، ردّاً على وحشية النظام. ومعلوم أن العديد من القوى الدولية والإقليمية والعربية ساهمت في تنمية هذه التوهّمات، وضمنها الرئيس الأميركي باراك اوباما، الذي تحدث أكثر من مرة عن نفاد وقت الأسد، وأن عليه أن يتنحّى، وقيام سفراء أميركا وفرنسا بزيارة تجمّعات المتظاهرين في حماة وحمص (عام 2011)، وتأكيد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على عدم السماح بتكرار تجربة حماة، وقوله إن حلب «خط أحمر»، ناهيك عن تشجيعات بعض دول الخليج. التأثر الثاني الحاصل، وربما هو الأكثر خطورة، يتمثل بانعكاس التجربة السورية على التجربة المصرية، مع استحواذ «الإخوان المسلمين» على السلطة في مصر. والحال أن صعود التيار الإسلامي المتطرّف وغلبته على مشهد الثورة السورية، نمّى المخاوف من تيار الإسلام السياسي بمجمله، بخاصّة أن قوى الثورة السورية غطت على هذه الجماعات المتطرفة بدلاً من أن تتبرأ منها وتعزلها وتتمايز عنها، وهذا يشمل جماعة «الإخوان المسلمين» السورية، التي عزفت عن تفنيد طروحات هذا التيار وكشف لامعقوليته، للتمايز عنه، لاسيما أنها الأجدر للقيام بهكذا دور، لصالحها ولصالح الثورة السورية. المشكلة أن قوى الثورة السورية لم تفعل ما عليها، على الرغم من أن هذه الجماعات المسلحة لم تخف ولاءها لتنظيم «القاعدة»، بل جاهرت حتى بعدم صلتها بهياكل الثورة السورية السياسية والعسكرية. والأنكى أن هذه الجماعات المسلحة، التي تتغطّى بالإسلام، باتت تتصرّف بطريقة استفزازية ومشينة في الأماكن التي تسيطر عليها بقوة السلاح، إلى درجة أن هذه المناطق لم تعد تبدو كمناطق محررة حقاً. وبديهي أن ذلك أثقل على السوريين، وفاقم الإحباط في صفوفهم، بعد أن باتوا بين مطرقة النظام وسندان هذه الجماعات (خصوصاً في الشمال والشمال الشرقي)، التي لا تنتمي إلى ثقافة السوريين، ولا حتى إلى مجتمعهم، ناهيك عن الشبهات التي تحيط بمرجعياتها ومصادر دعمها، التي لا تخلو من توظيفات استخباراتية، مباشرة أو غير مباشرة. الفكرة هنا أن هذا المشهد السوري المقلق والمحبط، والمبني على التخوّف من صعود التيارات الإسلامية، انعكس سلباً على تجربة «إخوان» مصر (وحركة «النهضة» في تونس)، إذ إنهم لم يحسبوا جيداً متطلبات المرحلة الانتقالية، التي تفترض تعزيز المشاركة لا الاستفراد بالحكم أو الاستئثار بصياغة الدستور، الذي لم يشارك في التصويت عليه سوى ثلث المصريين (18 من 52 مليون) ووافق عليه 63 بالمئة من المشاركين، وليس من مجموع أصحاب حق التصويت. كما لم يلحظ «الإخوان» تراجع القوة التصويتية لحزبهم، ولا أقرّوا بأن الرئيس مرسي نجح بأصواتهم وبأصوات آخرين من خارج جماعتهم، وبفارق ضئيل على منافسه احمد شفيق، ولم يحسبوا جيدا للتركة الثقيلة التي بين أيديهم، ولا لقوة الجيش وجهاز الدولة، ولم يبحثوا عن خيارات بديلة لتعزيز وضعهم، وحتى أنهم لم يلاحظوا تزايد المعارضة لسياساتهم ولوجودهم في الحكم. على أي حال، ربما الأجدى رؤية التحولات الجارية والتداعيات المؤلمة والمعقدة في الثورات العربية باعتبارها جزءاً من عملية التغيير ذاتها، وأن المشكلة لا تكمن في الواقع ولا في مجتمعاتنا، فقط، وإنما تكمن أيضاً في الصورة المتخيّلة والجاهزة والرومانسية عن الثورات في إدراكات كثيرين منا. ما ينبغي إدراكه بهذا الخصوص أيضاً، أن الثورات ليست مجرّد عملية انقلابية تغيّر في أشهر أو عام أو عامين تركة عميقة وثقيلة عمرها عقود أو قرون، فهي يمكن أن تسقط نظام حكم وطغمة حاكمة، لكن عملية التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ربما تحتاج إلى سنوات طويلة وربما عقود. وما ينبغي إدراكه تبعاً لذلك أيضاً، أنه لا توجد ثورات ناجزة مئة بالمئة، لأن عمليات التغيير، لا سيما الاجتماعي والثقافي والفكري، تحدث بطريقة تدريجية وبطيئة، وإلى هذا وذاك ربما يفيد الانتباه إلى أن طريق الثورات مكلف ومؤلم ومتعرّج، وأنه ليس مقدراً لها الانتصار حتماً، إذ يمكن أن تتعرّض لانتكاسات وتراجعات وانقلابات وانحرافات، وهذا حدث مع كل الثورات التي عرفتها البشرية في تاريخها. مع ذلك، فما كان قبل هذه الثورات ليس كما بعدها، فهي -كما أسلفت- جلبت المجتمعات كفاعل إلى مسرح التاريخ وأدخلتها السياسة لأول مرة في تاريخها، وكسرت القشرة الصلبة للاستبداد، وهذان ليسا بالشيء القليل أو الثانوي. * كاتب فلسطيني