مصر في يوم الحريق الكبير، دماء وجثث محترقة في قاهرة المُعِزّ، دماء ضباطٍ وجنود ومعتصمين مع «الإخوان المسلمين»، وشرارات تتنقل بقوة إعصار العنف بين المحافظات. كالعادة اسُتدرِجت مشاعر الأقباط بحرق كنائس في الصعيد، قيل انه ثأر لفض اعتصامَيْ «الإخوان» في ميدانَيْ رابعة العدوية والنهضة في قلب العاصمة المصرية. وكالعادة ايضاً في أحداث ومواجهات تلت ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، الجيش مستهدف بالرصاص الحي، وفي يوم الحريق والدماء أمس، يوم فض الاعتصامَيْن تتباين تقديرات الإصابات وأعداد الضحايا بين بيانات السلطة وبيانات «الإخوان» بالمئات. الحكومة تحمّل قادة الجماعة مسؤولية إزهاق أرواح في الميدانَيْن، والجماعة تحمِّل الجيش المسؤولية، وأحزاب وحركات بينها «6 ابريل» تقذفها في وجه الجيش والشرطة و «الإخوان». الجماعة الإسلامية تلوّح بثورة ثالثة بعد «مجازر» تلت فرصة العيد التي أهدرها «الإخوان المسلمون»، مصرّين حتى قبل ساعات من فجر الكارثة على «استعادة» شرعية الرئيس السابق محمد مرسي، شرطاً لأي «مساومة» وأي حوار. والغريب أن الجماعة (الإخوان) لم تدرك ظاهرياً على الأقل، كما تشي تصريحات قادتها أن ذاك الشرط مستحيل، إذ يقود ببساطة إلى إجراء واحد: إقدام نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي والرئيس الموقت عدلي منصور ورئيس الحكومة الموقتة حازم الببلاوي على شطب أدوارهم، وتسليم أنفسهم إلى «الإخوان»! والسؤال هو ببساطة: هل تجاهلت هذه الجماعة مغزى إعلان السلطة عشية العيد، فشل كل الجهود الدولية (الأميركية والأوروبية والعربية) لتسوية الأزمة- المأزق التي تحاصر مصر ومواطنيها وجيشها وأحزابها وجماعاتها منذ إطاحة مرسي... وهل أصرّ «الإخوان» على عجزهم عن قراءة مواقف الحكم الجديد الانتقالي، خصوصاً احتماء السيسي ب «التفويض الشعبي» الذي طلبه لمواجهة «العنف والإرهاب»، واستدراجه الحشود المناوئة لاعتصامات «الإخوان المسلمين». الأقرب الى الظن ان «الإخوان» وأنصار الرئيس السابق ظلوا حتى اللحظة الأخيرة يراهنون على تراجع السلطة، وربما ما اعتبروه تردّداً خشية الثمن الباهظ في الشارع. لكن الأكيد أن «ترويكا» الحكم الانتقالي (السيسي ومنصور والببلاوي) التي جمعها الدفاع عن «هيبة الدولة» وصدّ «ما يهدد الأمن القومي» اختارت القفز على محاصرة «الإخوان» السلطة في الشارع، لتخويفها بورقة العنف والدم، فيما المتشددون والأصوليون من جماعات سيناء يحاصرونها يومياً بورقة «الإرهاب». وبعيداً من التكهنات بدور الطوابير الخامسة في محاولة إضرام نار الطائفية، أو تأجيج الفتنة بين المواطنين من أنصار مرسي ومعارضيه، قبل ساعات قليلة من فجر الحريق الكبير في مصر، هل ترك هؤلاء الأنصار للجيش وقوى الأمن أي خيار آخر، قبل تمدُّد المواجهات الدموية وفرض حال الطوارئ؟ ليس دفاعاً عن الجيش القول ان أحداً في الداخل أو الخارج لم يتلمّس نيّة جدّية لدى «الإخوان» بإيجاد حل يقي البلد أخطار القتل والخراب، فيما «خريطة الطريق» لا تقصي هذه الجماعة من العمل السياسي. في المقابل، واضح أن بقية الأحزاب والقوى التي ابتهجت لإطاحة مرسي، لم تكلّف نفسها عناء المشاركة في تأهيل «ظروف» الحوار، وترغيب «الإخوان» به، بل إن بعضها متّهم بحملة «شيْطنة» للجماعة غذّت الكراهية لأنصارها في الشارع، ووسّعت خنادق الريبة... والمواجهة. وإذا كان الحوار مرغوباً لدى الجميع، قبل فجر الحريق الكبير، هل يستقيم حوار باشتراط عودة رمز عهدٍ إلى السلطة، أي انقلاب على «انقلاب» تتصدى له الجماعة بما تعتبره شهادة؟ لا جديد في الموقف القطري الرافض عملياً لسلوك الحكم الانتقالي مع «الإخوان»، وليس مستغرباً تنديد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بما سمّاه «المجزرة». ما يثير الشكوك والريبة هو استهجان إيران «قتل المواطنين» و «المجزرة» في ميدانَيْ رابعة العدوية والنّهضة، بينما لا تتزحزح طهران قيد أنملة في دفاعها عن «صمود» النظام السوري وتبريرها حربه، واختزالها ثورة الشعب السوري ب «مجموعات إرهابية»... رغم سقوط أكثر من مئة ألف قتيل. يثير الريبة أكثر، إلحاح طهران على احتمالات الحرب الأهلية بين المصريين في «البلد المسلم الكبير»، كأنها واقعة غداً. وبصرف النظر عن المصالح الخارجية، الأكيد أن المصريين جميعاً فشلوا حتى الآن في اختبار تجريب السلطة ما بعد الثورة على الديكتاتور، وتجريب الحوار سلوكاً ومنهجاً في السياسة، لحماية البلد والدولة. والكارثة أن يتحول مشهد الحريق فصلاً يومياً في النزاع على السلطة، باسم «الشرعية»، وفي حماية الرأي بالدم، لتجريم الطرف الآخر.