تعتبر روسيا اول دولة أوروبية تتأثر بإنتاج النفط، وذلك بعد حفر البئر النفطية الأولى في باكو على ساحل بحر قزوين عام 1846، قبل 13 سنة من حفر الكولونيل ادوين دريك البئر النفطية الأولى في الولاياتالمتحدة في مدينة تيتسفيل في ولاية بنسلفانيا في الولاياتالمتحدة الأميركية عام 1859. ويُذكر ان اثنتين من كبرى العائلات الأوروبية التجارية المرموقة في حينه حازتا على امتيازات الإنتاج والتصدير للنفط الروسي، هما عائلتا روتشيلد ونوبل، وذلك بحسب الكتاب الذي صدر أخيراً بالإنكليزية في بيروت عن الخبير الاقتصادي اللبناني مروان اسكندر حول التاريخ الاقتصادي والسياسي والحضاري لروسيا قبل تأسيس الاتحاد السوفياتي ومن ثم النهضة الاقتصادية والاجتماعية الروسية بعد سقوط النظام الشيوعي. ويضيف الإستاذ اسكندر في بحثه القيم حول الدور المتزايد لباكو وبحر قزوين في الفترة اللاحقة كيف انه بحلول عام 1880، هيمن انتاج هذه المنطقة على معظم امدادات النفط الى أوروبا، وكذلك الدور الرئيس لعائلتي روتشيلد ونوبل في المراحل الأولى لإنتاج النفط الروسي. لكن كادت ان تتغير الصورة بحلول عام 1895، اذ بادرت شركة « ستاندرد اويل» الأميركية إلى توقيع اتفاق مع العائلتين الأوروبيتين كان سيضع الإنتاج العالمي للنفط تحت سيطرة شركة واحدة، مع تقاسم للنفوذ مع العائلتين. الا ان الحكومة الروسية اعترضت في حينه على الاتفاق ولم يمر. لم يكتف المؤلف طبعاً بالأمور التاريخية، بل يشير في هذا الصدد إلى ان عام 1988، أي قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، شهد تسجيل معدل الإنتاج النفطي السوفياتي نحو 12.50 مليون برميل يومياً، ويقارن هذا الرقم بمعدل الإنتاج الحالي لروسيا البالغ نحو 908 ملايين برميل يومياً. وعند الإشارة الى الثروات البترولية الروسية، يجب ذكر معدلات انتاج الغاز الطبيعي، لأن لدى روسيا اكبر احتياطات غازية عالمية تقدر بنحو 1700 تريليون متر مكعب، كما ان روسيا هي اكبر دولة مصدرة للغاز. وتضخ روسيا حالياً نحو 41 في المئة من الغاز الطبيعي الذي تستورده أوروبا، في حين ان واردات أوروبا من النفط الروسي زادت من نحو 12 في المئة من إجمالي الواردات الأوروبية عام 2008 الى نحو 29 في المئة حالياً. ويجلب البترول نحو 64 في المئة من واردات روسيا من العملة الصعبة. لا يمكن مناقشة السياسة البترولية الروسية المعاصرة من دون الولوج في مشكلة الخلاف حول سعر الغاز ما بين موسكو وكييف. وبالفعل، اسهب المؤلف في شرحه لهذه المسالة وخلفياتها وتطوراتها. ومما ذكره ان روسيا لا تخفي نيتها في استعمال صادراتها الطاقوية كإحدى الوسائل المتاحة لديها في تنفيذ سياستها الخارجية. لكنه يشير إلى ان السعر الرخيص الذي حصلت فيه اوكرانيا على الغاز الطبيعي، يعود اساساً الى كونها جزءاً من المنظومة الاشتراكية. وأن سعر تلك الأيام كان تفضيلياً ومدعوماً لأسباب سياسية تاريخية بحتة، ومن ثم لا يمكن الدفاع عنه بحجج اقتصادية. ولم تفت المؤلف أعمال النهب والاحتيال التي عمت القطاع البترولي في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، وكيف حازت رئيسة وزراء اوكرانيا يوليا تيماشنكو، مثلاً، على نحو 200 مليون دولار من ممارسات تجارية مريبة في قطاع البترول الروسي في حينه، ما دفع بالمحاكم الروسية الى إصدار حكم باعتقالها لاحقاً. وناقش الإستاذ اسكندر بإسهاب وبكثير من المعلومات النهب الذي عم القطاع البترولي الروسي في عهد يلتسن حوالى عام 2000، وكيف استطاع الرئيس فلاديمير بوتين لاحقاً اعادة الثروة البترولية الروسية الى الدولة، بدءاً يمعركة تفكيك امبراطورية «يوكوس اويل» التي اسسها البليونير الشاب ميخائيل خودوركوفسكي. الا ان واحداً من اهم الفصول في هذا الكتاب هو شرح العلاقات البترولية الروسية - السعودية المعاصرة وآثارها في اسواق النفط العالمية. ويجب التنويه في هذه «المراجعة البترولية»، ان كتاب الإستاذ اسكندر لم يقتصر على الأمور البترولية او الاقتصادية، بل تناول في معظمه تحليلاً وخلفية مفيدة جداً حول حضارة روسيا وتاريخها الغني. ومما يميز هذا الكتاب ايضاً الجهد الذي بذله المؤلف في جمع التحليلات والمعلومات من خلال مقابلات كثيرة حصل عليها مع مسؤولين كبار في روسيا وأوروبا. ويذكر ان الكتاب، وهو الحادي عشر للمؤلف، في طريقه إلى الترجمة الى اللغتين العربية والروسية، ما سيفيد قراء العربية في تعريفهم بتاريخ روسيا وحضارتها، بالإضافة الى اقتصادها، كما سيتيح لقراء الروسية التعرف إلى تاريخ واقتصاد بلادهم من قبل كاتب عربي مرموق. وعلى رغم توافر مصادر طاقوية وافية عند الدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن هي لا تتوقف عن استيرادها، باستثناء روسيا. فالولاياتالمتحدة لديها كميات وافية من النفط والغاز، الا انها على رغم ذلك تستورد كثيراً منه. وبريطانيا لديها نفط بحر الشمال، لكنها تستورد الغاز والكهرباء. وفرنسا تعتمد على مصادرها الذاتية لإنتاج الكهرباء من محطاتها النووية، وتصدر جزءاً من هذا الكهرباء الى بريطانيا، لكنها تستورد النفط والغاز. اما الصين، فلديها احتياطات بترولية لكنها تستورد كثيراً من النفط والغاز. وتبقى روسيا الوحيدة من الدول الكبرى الخمس التي تصدر كميات ضخمة من البترول ولا تستورد الطاقة، ما يعطيها تفوقاً استراتيجياً. * كاتب متخصص في شؤون الطاقة