كم يذكرنا تصريح نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي، الذي يقف فيه الى جانب سورية في مواجهة الحكومة العراقية في الخلاف المستحكم والمستجد بين البلدين، بسياسيين لبنانيين لطالما اختاروا الموقع السوري في مواجهة بلدهم! وعبد المهدي، عضو في هيئة الرئاسة في العراق، وممثل المجلس الإسلامي العراقي الأعلى القريب من إيران، وهو ما يشكل عنصر مشابهة ثانياً للواقع اللبناني المرير. ولا يمكن فهم مواقف عبد المهدي من السجال السوري - العراقي إلا بصفتها لحظة يتقدم فيها الموقع الإيراني على الموقع العراقي في هويته الحزبية. فرئيس الوزراء نوري المالكي يساجل الحكومة السورية في قضية إيوائها قادة البعث الذين يُطالب حزب عبد المهدي باستئصالهم، ويتهم المالكي بالتحالف معهم في الانتخابات، وفجأة ينبري نائب الرئيس ليبرئ البعث من تفجيرات الأربعاء الدامي في بغداد ويتهم «القاعدة»، في وقت يعلم هو كما يعلم أي عراقي ان التمييز بين التنظيمين ممكن، ولكن في غير ميادين التفجير والقتل، كما انه يُغفل حقيقة ان تلك «القاعدة» تُقيم في سورية وفي إيران حليفتيه، على عراقيته وعلى تجربة الحكم الجديدة فيه.إذاً، موقف عبد المهدي جزء من مشهد تتمثل فيه القدرة الإقليمية على اختراق الداخل العراقي في قلب تجربته السياسية الجديدة. لا مصلحة لإيران بالذهاب بعيداً في اتهام سورية بإيواء بعثيين يهددون استقرار العراق. وترجمة المعادلة تتم عبر استعمال النفوذ داخل حلقات السلطة في بغداد، وإذا كنا على أبواب انتخابات نيابية، ساعتئذ تتقدم المصالح الحزبية بمعناها الأضيق على الحسابات الوطنية. عبد المهدي واحد من أركان النظام الجديد في بغداد، وخروجه عن الموقف الرسمي العراقي يطرح مجدداً معضلة الحكم في بلدان تتنازعها مصالح الجماعات والأحزاب والدول. فالرجل ليس معارضاً في البرلمان، انه جزء من السلطة التنفيذية، وحزبه ممثل في الحكومة على نحو كبير! إذاً، كيف تستقيم سلطة (تنفيذية) متنازعة بين أهواء ومصالح متباينة الى هذا الحد؟ أليست تماماً هذه حال لبنان؟ حين يُنتج النظام السياسي سلطة مقيدة بما هو أكثر من برلمان ومعارضة برلمانية، تصبح الدول المجاورة شريكاً فعلياً في الحكم، خصوصاً في دول ضعيفة وخارجة من تجارب مريرة. لبنان، فلسطين، العراق، أفغانستان، البوسنة... كلها دول تصح فيها تلك المعادلة، أي قدرة الخارج على اختراق الداخل بأدوات محلية، وكلها دول استقامت فيها السلطة على تسويات «ديموقراطية» انتخابية ولكن مع خلل جوهري في طبيعة النظام يتمثل في عدم اكتمال عدة السلطة وعدم تجمعها في يد جهة فازت في الانتخابات. فرئيس الوزراء العراقي منتخب من دون شك، لكنه عاجز اليوم عن الحكم من دون ركيزة تحالفات تستدخل المصالح الإقليمية، وبالتالي هو عاجز عن تمثيل المصلحة الوطنية في معزل عن حسابات مصالح الحلفاء الذين تربطهم بدول مجاورة علاقات «فوق وطنية». التمييز الذي أقامه عبد المهدي بين البعث و «القاعدة» في دفاعه عن دمشق، يمثل نكتة فعلية في العراق، وهو نكتة لأنه صدر عن عبد المهدي. فالرجل أحد قادة المجلس الأعلى الذي لم يُعرف عنه التمييز أيام كان ذلك ضرورياً في الكثير من المحطات العراقية، وهو أيضاً نكتة عندما نقرأ الوثائق العراقية التي من المؤكد أن الرجل قرأها. الانتخابات قريبة في العراق، وبما أن النظام السياسي والانتخابي عاجز عن إنتاج سلطة منسجمة تتولى الحكم، فالتعويل في هذه الحال هو على الناخب العراقي، عبر إنتاجه سلطة منسجمة ومعارضة برلمانية، وذلك عبر صناديق الاقتراع. والقول بأن التعويل على الناخب في إنقاذ بلد، في منطقة لم يُشتهر فيها الناخب بوعيه وتقدمه، لا تؤكده تجربة الانتخابات المحلية في العراق، والتي أظهر فيها العراقيون رغبة فعلية في الوقوف في وجه أحزاب كثيرة لا تقتصر على حزب عبد المهدي. المحطة الانتخابية المقبلة في العراق ستكون مفصلاً رئيساً في حياة التجربة، فهي ستجرى أيضاً على أبواب انسحاب أميركي بدأت نُذره مترافقة مع تعاظم المطامع الإقليمية، مما يتطلب إدارة سياسية تجيد تمثيل المصالح العراقية بموازاة تقديرها مصالح دول الجوار. فالأميركيون باشروا مرحلة مختلفة بعلاقتهم مع «القضية العراقية»، وهم أظهروا ميلاً قد لا ينسجم مع التطلعات العراقية، إذ ان مفهومهم للأمن في ظل نية الانسحاب الوشيك لم يتقاطع مع مصالح العراق كما تعتقدها حكومة المالكي. اليوم هم على الحياد في الأزمة بين بغداد ودمشق، وذلك انطلاقاً من قناعة بضرورة إشراك دمشق بتسوية تسبق الانسحاب في 2011. لن يكون هذا مجانياً، فسورية لم يسبق أن أعطت بالمجان. ومن سيدفع لن يكون واشنطن بالطبع، إذ ان الأخيرة مغادرة بهدف تخفيف الفواتير. بغداد هي من سيدفع، ولهذا عليها هي أن تحدد البضائع التي ستشتريها من سورية، وليس واشنطن. نتائج الانتخابات المقبلة في العراق ستحدد قدرة بغداد على تقدير هذه البضائع وعلى تحديد الثمن.أمام العراقيين فرصة في هذه الانتخابات ليس لضبط طموحات جيرانهم في التدخل في شأنهم الداخلي، بل لإدارة هذا التدخل والتخفيف من الخسائر... بانتظار عودة بغداد دولة إقليمية تتولى حماية نفسها من خلال تدخلها هي في أوضاع جيرانها الداخلية. فيا لبؤسنا نحن ضعفاء هذا الشرق.