مقولات وشعارات ونداءات جديدة مؤثرة ومشهورة معبرة أضافتها أنفاس الربيع العربي الصادقة إلى معاجم مفرداتنا، مبتدئة رحلة تحريرها من سباتها الطويل المثقل بأضغاث الوهم والوهن: الشعب يريد... إسقاط الظلام. ارحل...ارحل. حرية...حرية. سلمية...سلمية. كفى ...كفى. لا للفساد. الشعب يريد...ويريد.الشعب يريد إسقاط الظلام. أحداث مفاجئة ومدهشة، لم تكن بالحسبان، ولقد أجاد في وصفها ذلك التونسي وهو يمسح شعره الفضي الشائب: " لقد هرمنا...لقد هرمنا" في الذل والظلم والوهم وسلب الإرادة الحرة، ولم نكن نحلم، أو حتى نجرؤ على أن نتخيل ما يحدث اليوم. ويزيد وقع هذه الكلمات البليغة المهيبة صرخات تونسي آخر أسرته الصدمة، وكأنه غير مصدق، أو يظن انه في عالم الأحلام: بن علي هرب... بن علي هرب. لا ينكر عاقل ما للربيع العربي من أثر بالغ في النفوس والقناعات والبلاد والمبادرات، هو تغيير، أو بتعبير أكثر دقة، بداية لرحلة أو سلسلة التغيير، حلقة من هذه السلسلة تتحرك نحو إرادة الشعب وتطلعاته المشروعة، وأمان عراض أن تتلوها حلقات أخرى. إن الملاحظ الحصيف يقر بأن هذه السلسلة تتجاذب شدها وجذبها وتحريكها قوى عدة من ضمنها بقايا ليست بالقليلة من رموز الليلة الماضية التي اعتقد الكثيرون تحررهم من ظلامها وظلمها وألاعيبها. ما تفسير هذا الأثر الجزئي للربيع العربي؟ لماذا قل حصاده عن المتوقع والمأمول؟ لماذا ضمرت بعض ثماره قبل نضجها ولماذا ذبلت بعض وروده؟ كيف نفسر معاناة الاتجاهات الربيعية وتحدياتها الكبيرة؟ كيف نفسر الاختلافات والخلافات؟ وكيف تجمع الاعتصامات السلمية وأنشطة الممانعة المجتمعية النفوس والصفوف والألوان كي تفرقها وتشرذمها، بعد ذلك، السياسة؟ هل تغيرت الأهداف عما هتفت به، قبل أيام، حناجر ميادين التحرير وألسنة ساحات التغيير والاستقلال؟ ها قد سقطت بعض رموز الاستبداد القديم التي لمناها طويلاً، فلماذا لا نتحد الآن؟ وما عذرنا؟ هل يحتاج الربيع العربي إلى شعارات وهتافات جديدة؟ هتافات نلوم فيها، ونعاتب، ونحاسب طرفاً مغيباً نسيناه أو تناسيناه في أوائل الربيع؟ إنها نفوسنا وجاهزيتها - نخباً وجماهير - لفهم التغيير ووعي سننه وإدارة دفته بحكمة. أنبذل الجهد القديم نفسه، بكل قصوره وعوره وتناقضاته، ثم نتوقع ثمراً أينع ومحصولاً أوفر؟ ها هي عاداتنا القديمة لم تتغير، بكسلنا وتواكلنا، واستغراقنا في ذواتنا، وتقديم الذات على المجموع، وإجادة لعبة التلاوم، وأسر أوهامنا القديمة التي تشربتها نفوسنا حتى ألفناها. أيتوقع عاقل التغيير وهو لم يبرح مكانه ولم يغير سيرته الأولى؟ أنرجو الله تغيير حالنا نحو الأفضل والأصلح ونحن لم نغير ما بأنفسنا؟ يا ليتنا اعترفنا في أول أمرنا وهتفنا: الشعب يريد إسقاط الشعب. الشعب يريد إسقاط عاداته السيئة. الشعب يريد إسقاط صورته القديمة كي يستحق صورته المرجوة. الشعب يريد إسقاط الأنانية قبل تعلم أدب التضحية. الشعب يريد إسقاط الهوى والعجب بالرأي. الشعب يريد إسقاط الأنا البغيضة لتعلو نحن الحبيبة. الشعب يريد إسقاط عادة لوم الآخر لكل عيوب الشعب. الشعب يريد إسقاط تبرئة الذات وإعلاء نقدها ومحاسبتها بصدق وبصيرة. الشعب يريد إسقاط عيوبه. الشعب يريد إسقاط أغلال النفس وأثقالها كي يحلق عالياً في سماء الحق والفضيلة. أسقطوا الشعب ليستحق ما يريد وينال ما يأمل. يدعي البعض تأخر شعار: الشعب يريد إسقاط الشعب في سياق الأحداث المتسارعة، ومع الإقرار بصحة ما ذهبوا إليه فمن المستحيل إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، لكن الحكمة ضالتنا وإن تأخر ظهورها. ياله من درس ثمين لا مفر لنا من الاعتراف به ومواجهته وتعلمه من مدرسة الربيع العربي: إننا نحتاج كأمة مسلمة إلى وعي متجدد وإدراك عميق، للضرورة الملحة، إلى تربية وتكوين رواد ونخب وقواعد شعبية ومناظير وخطط وفق مناهج أصيلة تعرف أخطاء الأمس ولا تقدسها أو تصر عليها، وتتحاشاها بأمانة وجرأة، وتنتقي أفضل بذور القوة والتمكين وتغرسها وتسقيها، وتصبر على نضجها، ولا تستعجل قطافها. لن يزهر ويثمر الربيع العربي ويؤتي أكله إلا إذا بدأنا رحلة التغير والتغيير من داخل ذواتنا. لن يسقط الظلام إلا إذا أسقطنا حبنا للظلمة وعلمنا أعيننا وأرواحنا حب النور والدرب المنير. لابد من التخلية قبل التحلية، تخلية تنطلق من الأصول الثابتة، تخلية للشعب - كل الشعب - من عاداته السيئة والمعوقات النفسية والحضارية لنهضته، تخلية يصحبها أو يتلوها تحلية الشعب بتعليمه أخلاقاً حميدة وعادات وحكماً مفيدة. لابد من إسقاط الشعب - بمفهومه وأثره القديم - كي يولد الشعب المسلم من جديد ويعلو ويحلق، وليست هذه التجربة في تغيير الذات وإصلاحها بجديدة على أمتنا، فلقد فعلتها الأمة من قبل، وغيرت ما بنفسها، فانتصرت على ذاتها، وستفعلها مرة ومرات أخرى، والله منجز وعده، وما ذلك على الله بعزيز.