السينما بالنسبة إليه وسيلة للمقاومة، علاج نفسي، من خلالها يحاول أن يفهم المجتمع. وحتى إن لم ينجح في العثور على حلول فهو في نهاية الأمر يصنع أفلاماً. مهموم بتحليل هذا الموزاييك الخاص بالمجتمع اللبناني، نسيجه التاريخي وتركيبته الطائفية. يضع جمهوره في مواجهة الذاكرة الحية سواء أكانت بعيدة أم قريبة. الجانب التهكمي والساخر ليس فقط سمة مميزة لأفلامه ولكنه أيضاً جزء من طبيعة شخصيته وتكوينه. بدأ حياته متطلعاً الى الروائي، لكنه سرعان ما تصالح مع الوثائقي. قدم أعمالاً متنوعة الطول منها: «بيروت وجهات نظر»، «لاجئون مدى الحياة»، «حرب السلام»، «أصداء شيعية»، «أصداء سنية»، «درس في التاريخ»، «تاكسي بيروت»، و «مرسيدس». ويعمل الآن على تصوير «كمال جنبلاط... الشاهد والشهادة». إنه المخرج اللبناني هادي زكاك الذي يقول عن بداية تجربته مع السينما: - بدأت منذ المراهقة وأثناء حرب لبنان. كانت مشاهدة الأفلام المنفذ شبه الوحيد لي، فأصبح عندي ولع شديد بأن أشرب وآكل الأفلام. كانت غذائي الأساسي منذ كان عمري 14 سنة، ثم استمرت في مرحلة الجامعة في لبنان وبعدها درست في الخارج وحصلت على دورات في السينما خصوصاً بلجيكا وفرنسا وألمانيا. كان همي دائماً أن أصنع أفلاماً، في وقت أتساءل لماذا تدور رحى الحرب في بيروت؟ ما الذي أوصلها إلى تلك الحالة؟ على رغم تلك الرغبة في صناعة الأفلام اتجهت الى التدريس وألفت كتاباً سينمائياً، فما هو الدافع؟ - وأنا في الجامعة كان التدريس باللغات الأجنبية وكان التوجه غربياً بدرجة كبيرة، فصارت لدي رغبة في أن أُطور الموضوع العربي أكثر، كتاريخ السينما في لبنان، وحتى أتعلم من تجارب الآخرين فبدأت في إعداد الكتاب أثناء دراستي ثم انتهيت منه قبل التخرج، وكان إعادة تأريخ للسينما في لبنان من عام 1926 وحتى 1996. طوال إعدادي له تعرفت إلى مخرجين من أجيال مختلفة، وهو ما سمح لي بأن أطلع على المعاناة والعقبات التي واجهت السينما، والى أي نوع من السينما أريد أن أتوجه. وكان عندي أيضاً هاجس تأريخي مع الذاكرة والطائفية في بلد ومنطقة عندها مشكلة مع الذاكرة ومع النسيان. فالسينما لها دور كبير في محاربة النسيان. عقدة الروائي بدأت بفيلم التخرج «ألف ليلة ويا ليالي» عن الصراع العربي - الإسرائيلي بأسلوب ساخر يستخدم شخصيات «ألف ليلة وليلة» وكان مزيجاً بين الوثائقي والروائي. لماذا فضلت أن تستمر مع الوثائقي، فغالبية المخرجين يبدأ مسيرته بالوثائقي كجسر يعبر من خلاله إلى الروائي؟ - بصراحة ليست عندي عقدة المرور على الفيلم الروائي، ولا أعتبر الوثائقي مرحلة للوصول الى الروائي. أشعر أن الوثائقي فيلم له هدف بكل معنى الكلمة ويشبهني في اهتماماتي وثقافتي ومطالعتي إلى درجة كبيرة، الوثائقي يجمع بين اثنتين من أولوياتي؛ صناعة الأفلام والتاريخ، يجمع بين السينما كلغة وأسلوب قادر على توصيل الأشياء التي أحبها وبين التاريخ كهاجس وخوف دائم أن نعود لخوض حرب أو حروب. الوثائقي تذكير بالصوت والصورة، ومشكلتنا في الشرق أننا نقلد الغرب ونحاول أن نثبت أننا قادرون على إنتاج الروائي مثلهم، وفي الوقت نفسه نضيع ولا نفكر في الوثائقي الذي يُمكننا أن نخترعه. وأنا في هذا الفيلم كنت أختبر إلى أين أحب أكثر أن أسير؟ مع فيلمي التالي «بيروت وجهات نظر» تأكدت رغبتي في صناعة الوثائقي، بعدها مررت بتجربة طويلة لأختبر الفيلم الوثائقي المرتبط بالتليفزيون مع قنوات محلية ثم فضائيات عربية منها الجزيرة الوثائقية، وصولاً إلى محاولة إخراج أفلام مستقلة. هل أعمالك التي قدمتها بإنتاج تلفزيوني تُرضي طموحك بقدر أعمالك المستقلة نفسها؟ - في تجربتي مع التلفزيون كانت عندي حرية كبيرة، لكن رغماً عني هناك أشياء تتعلق بطول الأفلام والقيود الخاصة بالتسليم ومنها مثلاً أن نضع في الاعتبار أن الفيلم سيكون لجمهور أوسع، بينما الفيلم المستقل درجة المخاطرة به أعلى، لكنه يسمح لي بجرأة أكبر في المضمون وفي الشكل. في النهاية الفيلم عندما يتم بإنتاج معين أو قناة معينة لا بد من أن ذلك يجعل المخرج يُفكر من داخله في مدى ملاءمة ذلك للجهة المنتجة حتى لو منحته تلك القناة «كارت بلانش» في الحرية أو غيره. فمثلاً «درس في التاريخ» كانت فيه مقاربة نقدية كبيرة للواقع اللبناني، بينما الأفلام التي صورتها خارج لبنان فيها أكيد نظرة الأجنبي للواقع أكثر من النظرة الداخلية. أفلام يسقطها الوقت هل قدمت أعمالاً للتلفزيون تشعر الآن أنه يُمكنك تقديمها في شكل أفضل بالإنتاج المستقل؟ -هناك أفلام مع الوقت لا أعترف بها، ميزتها الوحيدة أنني تعلمت من خلالها. أفلام لها علاقة بالمجتمعات الدينية، الأقباط أو الشيعة في العالم العربي، وكانت خاضعة لقيود التلفزيون كأن تدور في ساعة بكل تفاصيلها ومشاكلها وهذا طبعاً شيء عبثي جداً لأنه لكي تتناول موضوعاً محدداً بأكمله تحتاج إلى ساعات، وإلا سيكون الأمر أشبه بالرؤية مثلاً من طائرة تحلق فوق القاهرة، بينما إذا نزل المرء إلى القاهرة ومشى في كل شارع، وتشمم الروائح وشاهد الناس وتبادل الحكي معهم فستختلف الرؤية والنتيجة. وهذه الأفلام أستخدمها الآن في التعليم مع طلابي، بحيث يستفيد الشخص من أخطائه ويُعلم الآخرين. كذلك صوت المعلق كان من أسوأ الأمور. لماذا تلجأ إلى «الكاستنغ» في الوثائقي؟ - اختيار الشخصيات أمر مهم لأنه مرتبط بمضمون الفيلم، وبما أُريد أن أقدمه للمتلقي، لذا أبحث عن الشخصيات الملائمة القادرة على تحقيق هدف الوثائقي، من هنا عملت «كاستنغ» مثلاً لاختيار سائق التاكسي أو الأولاد في المدرسة، فقبل تصوير «درس في التاريخ» شاهدت أكثر من 100 ولد. تتبنى التزاماً ومسؤولية أخلاقية مع شخصياتك حتى التي تختلف معها في الرأي؟ - طبعاً. خصوصاً أنني لا أكذب عليهم أو أدعي أنني لست مختلفاً معهم في الرأي. لكن في الوقت نفسه لا أكون في حالة عدائية معهم لأنني أرغب في أن يفتحوا باب الحوار والحكي، فغالباً أكون في موقع الشخص المنصت الذي يبدو وكأنه لا يعرف، وذلك حتى أعرف وجهة النظر، حتى لو كنت مع أكثر إنسان راديكالي أنا مستعد أن أستمع إليه لأفهمه. وهذا الميثاق الأخلاقي يبقى معك في حجرة المونتاج؟ - المونتاج أكيد له دور، فالمخرج يمسك كل خيوط اللعبة، ويوجد كثير من الأخلاقيات، لأن هناك أموراً تقولها الشخصيات أثناء التصوير أو بعده أو خارج التصوير لكنهم لا يرغبون في أن تظهر، وهناك أمور يتكلمون فيها وعنها ثم يُغيرون رأيهم فيطلبون عدم استخدامها، لكن أيضاً هناك أمور يمتنعون عن الحكي عنها، وفي هذه الحالة إذا لم يحكوا عنها يبدو الأمر وكأن المخرج هو الذي تفاداها، فهنا، كل حالة لها وضع مختلف. هناك شخصية صورت معها وكانت لا ترغب في أن تحكي عن مرحلة من حياتها، وإذا فعلت هذا فستُحتسب عليَّ وكأني أغفلتها، وهنا عليَّ أن أخلق الاتفاق لجعل الصورة أوضح، لأنني لا أعمل الفيلم للشخص ولكن عن الشخص. هنا صار فيه خلاف مع الشخص وليس مع الفيلم. كان الشخص يرفض الكلام عن مرحلة طويلة من حياته، وكان هناك سؤال طرحته فرد قائلاً: «أنا ما بدي أحكي عن هذا الموضوع»... فاستخدمت هذه الجملة، وهو استاء جداً لكن أنا كنت مُجبراً بسبب النظرة الأوسع. من ناحية أخرى أحياناً الأخلاقيات تعرّض الشخصيات نفسها للخطر. فيه شخصيات متعصبة صورتها لكن أنا عندي مسؤولية على حياتها، لأن تصريحاتها بالفيلم ممكن تعرض حياتها للخطر، فهنا عليَّ كصانع فيلم أن أتنبه الى هذه الجزئية وأحذف ما يُساهم في هذا. هل تنتهي من كتابة سيناريو مكتمل قبل بدء التصوير؟ - أعتمد على رحلة بحث طويلة جداً في الكتب واللقاءات مع شخصيات، والنزول إلى أرض الواقع، ثم أكتب سيناريو أتخيل فيه ما يحدث. أحياناً أتصور سقوط مطر أو شباك يقع، فيسألونني: كيف يمكن أن يحدث هذا؟ أنا أكتب ما يشبه خريطة الطريق أو الاتجاهات الأساسية للفيلم، وعندما نكون في الموقع نبدأ كتابة جديدة لأن أثناء التصوير ممكن تحدث أشياء كثيرة غير متوقعة، فإذا صورت كل شيء ممكن الفيلم يضيع ويروح في كل الاتجاهات. مثلاً في «مارسيدس» السيارة تعطلت في أحد المشاهد. عندما أخدناها على البحر مرضت ونحن تفاعلنا مع مرضها. فهناك تحديد أولي أننا سنأخذها على البحر، فلو لم نأخذها الى البحر لما تم المشهد كم حدث. فالتصوير بمثابة كتابة ثانية، ثم تأتي الكتابة الثالثة للمونتاج وهي أروع كتابة عندي. قبل أن أبدأ المونتاج أقوم بعملية تنظيف لكل اللقطات، وترتيبها مستعيناً بالسيناريو الأولي. أقوم بهدم القديم وتكوين بناء جديد. بعدها أطلب من المونتير أن يساعدني في التخلص من الأشياء التي لا يكون عندي الشجاعة كمخرج أن أتخلص منها، وذلك من أجل مصلحة الفيلم. السينما وتغيير الواقع أنت لا تُؤمن بأن في امكان السينما تغيير الواقع؟ - السينما لن تغير الواقع لكنها قادرة على جعلي أنا قادراً على الصمود في وجه الواقع، ذلك الواقع القادر على تغييري، هنا تأتي السينما وتجعلني لا أخضع للواقع ولا أتغير، فتساعدني في المقاومة والصمود. ولماذا لم تفكر في أن تترك لبنان حتى تتخلص من تلك الضغوط؟ - لأنني أحب أن أكافح، وأحب عملي في السينما، فمناقشة الموضوعات في أفلامي كأنني أنشر غسيلاً، وكأنني أسعد بتنظيف بعض هذا الغسيل، ويظل هناك أمل في تحسن الأوضاع حتى لو كان أمل طفيف، أو في أن أمنح بعض الناس الإحساس بأهميتهم وآدميتهم، حتى لو كان ذلك بالحكي عن الفيلم الوثائقي وأهميته، حتى لو بتصوير المجتمع. ربما أيضاً ما يمنعك من السفر هو أن تلافيف ذاكرتك مشبعة بالتفاصيل اللبنانية، فعلى أي شيء سوف تعمل إن تركت كل هذا؟ - صحيح. هنا القضية والمنبع. ذاكرتي عن لبنان وفلسطين ثم تتسع لتشمل الدول العربية. لكن لو سافرت سأفقد منبع الكنز، فهذا العالم الذي أعيش فيه أخذت منه هويتي وانتمائي. ماذا عن مشاريعك الحالية والمقبلة؟ - عندي اهتمامات بالسيرة الذاتية. هناك فيلم عن جدتي سأبدأه العام المقبل، عندي فيلم أجهز له عن الهجرة والعودة إلى لبنان في الثمانينات، وموضوع عن النكبة الفلسطينية، وكلها يتم تناولها عبر التاريخ لمناقشة الموضوعات التي تهمني سواء كانت عن الطائفية أو الهوية. حالياً أعمل على مشروع «كمال جنبلاط». هو مرحلة تاريخية تمتد على القرن العشرين، فهناك حادث اغتياله شديد الحساسية، وعلاقته بالعلمانية والطائفية. هنا أتذكر ما قاله أمين الريحاني سنة 1936: «الطائفية هي خيانة وطنية...» ومشروع جنبلاط كان إقامة دولة علمانية متحررة من كل قيود الطائفية. مع فشل هذا المشروع كان فتح إعادة تكوين كل المجتمعات الطائفية في لبنان، وكأن نهاية جنبلاط كانت نهاية حلم. فالفيلم كأنه محاولة لإعادة إحياء حلم.