عنوان المقال يلخص في عبارة واحدة ما حدث في مصر يوم 30 حزيران (يونيو) 2013. وذلك لأن عشرات الملايين من المواطنين المصريين خرجوا إلى الميادين في القاهرة وعواصم المحافظات المختلفة استجابة لحملة «تمرد» بهدف واحد هو إسقاط الشرعية الشكلية لجماعة «الإخوان المسلمين»، وإعلاء صوت الإرادة الشعبية التواقة لديموقراطية حقيقية، تعبر عن آمال وطموحات الملايين في حرية سياسية حقيقية وعدالة اجتماعية ملموسة وكرامة إنسانية تصون حقوق الإنسان. ألم تكن هذه هي الشعارات الأساسية لثورة 25 يناير ضد النظام الاستبدادي السابق؟ ولكن ماذا حدث في اليوم التالي للثورة؟ عبر مسار متعثر غاية التعثر في المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن خلال صفقات سياسية مع جماعة «الإخوان المسلمين» باعتبارها القوة السياسية الوحيدة المنظمة في البلاد، تم فرض استفتاء على الجمهور يسألهم سؤالاً واحداً هو: الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟ سؤال مريب، إذ كيف يمكن إجراء انتخابات أياً كانت من دون الانطلاق من دستور يحدد الحقوق والواجبات، وأهم من ذلك يكشف عن النظرية السياسية التي سيقوم عليها نظام الحكم؟ وانطلقت جماعة «الإخوان المسلمين» في حملات دعائية مضللة خلطت فيها كعادتها الديني مع السياسي، حين زعمت لجماهير المواطنين البسطاء أن من يقول «نعم» للانتخابات أولا سيدخل الجنة، ومن يقول «نعم» للدستور اولاً سيدخل النار! وبعدما ظهرت نتيجة الاستفتاء على هوى جماعة «الإخوان المسلمين» بأن الغالبية قالت نعم للانتخابات أولاً، انطلقت تروج لما ّسمته «غزوة الصناديق» وعنت بذلك صناديق الانتخابات حتى تضمن لنفسها الغالبية التي تسمح لها – وفقاً لقواعد الشرعية الشكلية - أن تهيمن على المجالس النيابية وتشرع كما تشاء، بل وأن تشكل الحكومة كلها لو أرادت من أعضاء حزبها «الحرية والعدالة»! وهكذا حصلت الجماعة – نتيجة تزييفها للوعي الاجتماعي للجماهير - على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، وما لبثت أن أدارت لحسابها أيضاً معركة رئاسة الجمهورية التي أعلنت في البداية أنها لن تدخلها ولكنها عدلت عن رأيها، سعياً إلى الاستحواذ على السلطة السياسية المطلقة. فرشحت نائب المرشد العام للجماعة خيرت الشاطر وهو قيادي بارز، ولما تم الاعتراض عليه قانونياً دفعت بالمرشح الاحتياطي الدكتور محمد مرسي الذي فاز بمنصب رئيس الجمهورية وإن كان بفارق ضئيل للغاية عن منافسه الفريق أحمد شفيق، نتيجة غفلة وسذاجة جماعات متعددة من الليبراليين الذين سعوا لتأييد الدكتور محمد مرسي نكاية في الفريق شفيق الذي اعتبروه ممثلاً للنظام السياسي القديم! واستناداً إلى قواعد الشرعية الشكلية أصبح الدكتور محمد مرسي رئيساً للجمهورية لا ينازعه أحد في سلطاته التي ظن وهماً أنها سلطات مطلقة تسمح بتجاوز الأعراف الدستورية والقواعد القانونية! والحقيقة أن الرجل لم يقصر في هذا المجال! فقد أصدر قرارات جمهورية معيبة ألغتها المحكمة الدستورية العليا للعوار القانوني فيها وكذلك محاكم القضاء الإداري. ولم يجد الرجل وسيلة يمارس فيها الاستبداد المطلق غير إصدار «إعلان دستوري» باطل نصب فيه نفسه ديكتاتوراً مطلق الصلاحية، بعد أن حصن قراراته من الطعن فيها بواسطة القضاء! كما حصن أيضاً اللجنة التأسيسية للدستور حتى لا يطعن القضاء في تشكيلها المعيب، وكذلك مجلس الشورى وغالبيته من «الإخوان المسلمين» والسلفيين، حتى ينطلق في مجال التشريع بلا معقب عليه من قوى المعارضة غير الممثلة فيه. وأخطر من ذلك كله أن الدكتور محمد مرسي بدأ بدأب شديد تنفيذ خطة جماعة «الإخوان المسلمين» في مشروع «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع»، وبدأ في غزو مفاصل الدولة الرئيسية عن طريق تعيين كوادر الجماعة في المراكز الحساسة، سعياً وراء تغيير طبيعة الدولة المصرية لتصبح دولة دينية. غير أن طليعة من طلائع ثورة 25 يناير من الشباب الثوري الناهض كونوا حركة «تمرد» باعتبارها حركة شعبية لسحب الشرعية من رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي، واستطاعت الحركة جمع توقيع ملايين المواطنين ودعت لتظاهرات حاشدة يوم 30 يونيو، واستجابت عشرات الملايين للدعوة وخرجت للميادين رافعة شعار «ارحل ارحل» وهو أحد شعارات ثورة 25 يناير الأثيرة. لن نقول أن 30 يونيو – كما يذهب البعض - ثورة جديدة، ولكن سنقول إنها موجة ثورية جديدة من موجات ثورة 25 يناير، أرادت بتصميم وبناء على مراقبة الممارسة الاستبدادية لحكم «الإخوان المسلمين» إسقاط الشرعية الشكلية لرئيس الجمهورية التي ظل يتشدق بها حتى اللحظات الأخيرة من حكمه الفاشل والاستبدادي، وإعلاء الإرادة الشعبية وتثبيت حقها في سحب الشرعية من أول رئيس للجمهورية يمارس الاستبداد باسم الشرعية الدستورية. سقطت الشرعية الشكلية وارتفع صوت الإرادة الشعبية ولكن ماذا بعد ذلك؟ وهل يمكن للجماهير أن يرتفع وعيها السياسي في شهور معدودة – وفقاً لخريطة الطريق التي أعلنتها القوات المسلحة - وأن تذهب إلى صناديق الانتخابات لمساندة الممثلين الحقيقيين للثورة بدلاً من اختيار أدعياء الثورة؟ في تقديرنا أنه ينبغي في الدستور المرتقب وضع ضمانات قانونية لا تسمح لأي فصيل سياسي حتى لو حاز على الغالبية المطلقة أن يتخذ قرارات عن طريق رئيس الجمهورية أو بواسطة الغالبية في المجالس النيابية من شأنها تغيير طبيعة الدولة المدنية. كما لا بد من وضع معايير دقيقة تمنع الحزب الذي حاز الغالبية من التغيير الجوهري للبنية الإدارية للدولة عن طريق تعيين أنصاره وإقالة أنصار خصومه. وأهم من ذلك لا بد من صوغ قانون للعزل السياسي لمنع الإرهابيين أو من مارسوا التحريض على العنف ضد الشعب أو ضد القوات المسلحة من ممارسة حقوقهم السياسية. بغير ذلك هناك مخاطر محتملة من عودة عديد من نواب جماعة «الإخوان المسلمين» من خلال قدرات الجماعة المعروفة في مجال الحشد والتعبئة وتصبح بذلك الموجة الثورية في 30 يونيو وكأنها لم تكن! نحن لا ندعو لإقصاء جماعة «الإخوان المسلمين» من المشهد السياسي ولكن ندعو للمحاسبة قبل المصالحة! ولا بد لهذه المحاسبة أن تتضمن نقداً ذاتياً علنياً يقوم به قادة «الإخوان» في ما يتعلق بترويعهم للشعب واعتداءاتهم على منشآت القوات المسلحة وإشاعة جو من الإرهاب في المجتمع. وممارسة النقد الذاتي في أي مجتمع متحضر تعد فضيلة سياسية ولا تنقص من قدر من يقوم بها، بل إنها ترتفع قدرة في نظر المواطنين لأن الاعتراف بالأخطاء واعطاءها التكييف الصحيح هو من التقاليد الديموقراطية المستقرة في المجتمعات المتقدمة. وآن لنا في المجتمع العربي أن نمارس النقد الذاتي لأنه السبيل الوحيد للتقدم الاجتماعي. * كاتب مصري