لا يمكن إهمال المعرض الرائع الذي انطلق حديثاً في صالة «بيناكوتك» الباريسية تحت عنوان «الفن الجديد الثورة الزخرفية». فمن خلال عشرات الأعمال الفنية التي تراوح بين لوحات ومحفورات وملصقات وزجاجيات وأثاث وقطع فنية مختلفة، يتوق منظّموه إلى كشف الإنقلاب الجمالي الذي أحدثه أرباب هذا التيار في مختلف ميادين الفن والحياة. وتجدر الإشارة أولاً إلى أن إرادة تأسيس فن جديد ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر وشغلت عدداً كبيراً من الفنانين والمنظّرين خلال القرن التاسع عشر، مثل الفرنسيين شارل غارنيي وكلود نيكولا والسويسري جوهان هاينريش فوسلي الذي كان أول مَن أدخل على الفن أشكالاً جديدة مهّدت لإستخدام كثيف للخط المنحني أو المقوّس وللعربسة اللذين سيميّزان أسلوب «الفن الجديد». لكن مرجع هذا التيار الرئيس يبقى النظريات الرومنطيقية التي تبلورت خلال القرن التاسع عشر في إطار «الفن المطلق» واعتبرت أن الفن حاضرٌ في كل مكان، في كل لحظة من الحياة وفي مجموع العناصر التي تتكوّن منها. وانطلاقاً من عام 1890، انتشر هذا التيار في أوروبا وأميركا كردّة فعل على مجتمع أكثر فأكثر تصنيعي (industrialisé) وعلى الأسلوب الكلاسيكي الطاغي داخل الفن، وحمل تسميات مختلفة: «تيفاني» في الولاياتالمتحدة، «الأسلوب الجديد» في ألمانيا، «الحركة الإنفصالية» في النمسا، «الفن الحديث» في هولندا، «الأسلوب الحر» في إيطاليا، «موديرنيسمو» في أسبانيا. أما عبارة «الفن الجديد» التي لن تلبث أن تحل مكان جميع هذه التسميات فظهرت في إنكلترا أولاً حيث تبلورت أبرز نظريات هذا التيار، قبل أن تنتقل إلى فرنسا. لكن التطبيق الفعلي الأول لنظريات هذا الفن حصل في بروكسيل من خلال الهندسة التي رصدها فيكتور هورتا لفندق «تاسّيل». وكنقيض للكلاسيكية، لم يفرض هذا التيار أي إكراه على الفنان بل تحرّر أربابه من التقاليد التي كانت تعيق عملية الخلق وتخلّوا عن جميع الأشكال المقنّنة التي تميّز الفن الأكاديمي فحوّلوا «الفن الجديد» إلى فن انتهاكي احتلت فيه الإيروسية موقعاً مركزياً. ولأن الحرية في العمل التي دعوا إليها كانت كاملة، لم تعد التسلية ممنوعة وأصبح اللعب والسخرية ممكنين وانتفت أي قاعدة كابحة لميولهم واستيهاماتهم. أما قاسمهم المشترك الوحيد فكان ولعهم بالعربسة والأشكال الطبيعية، بينما شكّلت المرأة مرجعهم الأول. وبخلاف اعتقاد الكثير من النقاد، لم يشكّل لجوء فناني هذا التيار إلى التشبيكات النباتية والزهرية والأشكال العضوية عودة بالفن إلى الوراء بل سعياً إلى رد الإنسان ومدينته المتصنّعة إلى الطبيعة من منطلق نظرية التقدم (داروين) التي تضع تطوّر البشر وحضاراتهم ضمن النظام الطبيعي للأشياء. وما خطوطهم المقوسة التي تبدو في حالة تموّج أو ارتجاج إلا تجسيد للحركة والسرعة الناتجتين عن التقدم التكنولوجي في مجال الإنتاج والإتصالات والمواصلات. أما توظيف بعضهم جميع الأساليب الماضية ضمن عملية خلطٍ مبتكَرة فهدفه التعبير عن تعقيد النفس البشرية المعاصرة والبيئة المدينية الحديثة التي تتداخل فيها جميع هذه الأساليب، لكن ضمن نظرة موجهة دائماً نحو المستقبل. وأبعد من الهاجس الجمالي اللافت في أعمالهم، استثمر أرباب «الفن الجديد» الحبكة السردية التي تحولت إلى عنصر جوهري في أسلوبهم يسيّر قصصاً مصدرها العالم الذي يحيط بنا ولكن أيضاً العالم الذي يحيا في ذهن الفنان. من هنا علاقة هذا الفن الحميمة بالشعر. فأكثر من أي تيار فني آخر، باستثناء السورّيالية التي يمكن اعتبارها وريثة له، وُلد «الفن الجديد» في محيط شعري الرمزية ترك أثر بالغاً عليه. وهذا ما يفسّر التنميق المكثف في أسلوبه الذي يستحضر أسلوب الشعراء الرمزيين، وما يجعل من كرسي أو طاولة أو آنية تنتمي إلى أسلوبه ركيزةً لاستكشاف شعري عميق ولمقاربة مواضيع كالحب أو الكآبة أو الموت. وكفنٍّ مطلق، طاول «الفن الجديد» كل ميادين الحياة، كالموسيقى والرسم والأثاث والمجوهرات والهندسة والزجاجيات، ضمن تشابُكٍ لهذه الميادين غايته طرد التقشّف وتفجير القواعد الفنية الجامدة. ولتشكيل فكرة عن غنى هذا التيار وطابعه الدولي، نشير إلى انتماء أبرز وجوه الفن الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إليه، كإميل غاليه وألفونس موشا ولويس مارجوريل وهنري فان دو فيلد وأنتوني غودي وهكتور غيمار ورونيه لاليك وأوجين غراسيه وتيوفيل ستاينلين وجون راسكين وغوستاف كليمت وكارلو بوغاتي، عمالقة لجأوا في عملهم إلى الركائز الفنية التقليدية ولكن أيضاً إلى التقنيات الأكثر ابتكاراً وتنوّعاً، كالخشب والأحجار الكريمة والحديد والزجاج والقماش والورق وأغلفة الكتب والملصقات الدعائية، فقلبوا تصوّرنا لأشياء الحياة وحوّلوا جماليتها بشكلٍ أصبحت فيه أكثر جاذبية وإغراء. وبين عامَي 1890 و1905، تحّكم هذا التيار بذوق عصره وأصبح، مع نجاح «المعرض الدولي» عام 1900، ركيزة لإنتاجٍ كثيف متفاوت القيمة، ما دفع بعض وجوهه إلى مغادرة فلكه، مثل بينغ وفان دو فيلد اللذين انتقدا بسرعة عملية تطوّره. ونظراً إلى رواجه، تعرّض لانتقادات غير مبررة من قبل تيارات أخرى حسودة، كدعاة الكلاسيكية أو الماركسيين أو القوميين الذين سخروا من عربساته وأسلوبه «الرخو» وصوريته التي ترتكز حصراً، في نظرهم، على الزخرفة والتزيين. ولن تلبث شعبية هذا التيار الكبيرة والانتقادات التي تعرّض إليها أن تُلصق به صورةً سلبية عزّزها الاحتقار الذي لاقاه من قبل معظم النقّاد ومؤرّخي الفن الذين لم يفهموا أبعاد ثورته الجمالية. وستؤدي هذه الانتقادات عشية الحرب العالمية الأولى إلى تطوّر «الفن الجديد» في اتجاه أسلوبٍ أقل تنميقاً وتعقيداً وأكثر هندسية عُرف انطلاقاً من عام 1920 تحت تسمية Art déco. ويجب انتظار بداية الثلاثينات كي يُعاد تأهليه على يد السورّياليين وينال ما يستحقه من إطراء واهتمام. وفي هذا السياق، يشكّل النص النقدي الرائع الذي خطّه سلفادور دالي في مجلة «مينوتور» عام 1933 خير احتفاء بهذا التيار الذي يُعتبر اليوم من دون مبالغة أول تجربة حداثية دولية في تاريخ الفن.