لم يوافق المجلس النيابي القيرغيزي في 20 حزيران (يونيو) الماضي بالتصويت على عقد إيجار قاعدة «ماناس» العسكرية الجوية مع الولاياتالمتحدة. وهذه القاعدة هي محطة ترانزيت لنقل الجنود الأميركيين و«الأطلسيين» والعتاد من أفغانستان وإليها. ويقضي الفسخ بتفكيك البنى التحتية لهذه القاعدة في تموز (يوليو) في العام المقبل. ومنذ إنشاء القاعدة الأميركية في قيرغيزيا في 2001، تداول زعماء آسيا الوسطى مراراً وتكراراً في إمكان إغلاقها. لكن النتيجة كانت دائماً تنتهي لمصلحة واشنطن. وفي موازاة التعاون مع الأميركيين، كان زعماء قيرغيزيا يتوددون كذلك إلى روسيا «الحساسة» إزاء المرابطة الأجنبية والعسكرية في الفضاء السوفياتي السابق. ففي 2009، أعلن الرئيس القيرغيزي، كرمان بك باكييف، خلال زيارته موسكو، أن القاعدة الأميركية ستغلق. ولكن مرت الأسابيع وبقيت الأمور على حالها فصرح الرئيس نفسه أن القرار لم يكن نهائياً، وأن تسوية أُبرمت لتحويل القاعدة الجوية مركزاً لدعم قوات الناتو المتمركزة في أفغانستان. وتغير الوضع مجدداً إثر موجة التظاهرات التي أطاحت باكاييف وأتت بالرئيس الثالث للجمهورية، ألماظ بك أتامباييف. وهذا رأى أن الوجود العسكري الأجنبي في المطار الدولي لبلده ليس رمزاً يليق بدولة لم يشتد عود استقلالها بعد. ولكن هل تضع الخطوة الأخيرة نهاية للوجود العسكري الأميركي في قيرغيزيا أم أنها جولة أخرى من التصريحات؟ يظهر إلقاء نظرة على الأحداث في الفضاء السوفياتي السابق أن مصالح روسياوالولاياتالمتحدة هي على صورة السياسة الدولية في القرن التاسع عشر. لكن الجغرافيا السياسية في آسيا الوسطى اليوم ليست على مثال «اللعبة الكبرى» – وهذه قوامها المنافسة الشرسة بين مراكز القوى- بل على مثال الترابط والتشابك بين دول المنطقة وأميركا. وترى موسكو أن دول الاتحاد السوفياتي السابقة هي منطقة مصالحها الحصرية وتحتكم إلى مبدأ الامتيازات مقابل الامتيازات. وتقضي الامتيازات بحصول روسيا على أفضلية في المجالات السياسية-العسكرية وفي مجال الطاقة، فيما يحصل شركاؤها على تخفيضات ضريبية، وقروض، وتسهيلات في شؤون الهجرة، وهو موضوع مهم لا يستخف بأهميته في آسيا الوسطى. وعلى سبيل المثل، زار الرئيس الروسي بوتين في أيلول (سبتمبر) 2012 قيرغيزيا، وأبرم اتفاقاً على تمديد الوجود العسكري الروسي في قاعدة «كانت» إلى عام 2032 وتنفيذ مشاريع للطاقة الكهرمائية. وكذلك وافقت روسيا على شطب 189 مليون دولار من ديون قيرغيزيا. وتبدو الأحوال مع طاجيكستان مماثلة. ففي آسيا الوسطى تبدي روسيا استعداداً للتعاون مع الولاياتالمتحدة على خلاف تحفظها عن الدور الأميركي في أوكرانيا وجنوب القوقاز. فموسكو تخشى انهيار أفغانستان وغرقها في الفوضى إثر انسحاب القوات الأميركية وحلفائها. لذا، لا تمانع «بلع الموس» والصدوع بالوجود العسكري الأميركي في جمهوريات آسيا الوسطى. لكن مثل هذه المرابطة تثير كذلك مخاوف روسيا. ولا يصب في مصلحتها أن تعزز واشنطن انتشارها في المنطقة وأن تقوض الدور الروسي هناك. ويؤثر إضعاف الدور الروسي سلباً في نفوذ موسكو الإقليمي. وقد يحمل هذا الضعف واشنطن على الطعن في الحاجة إلى موسكو في وقت يسعها بناء علاقات مباشرة مع دول المنطقة. وسعت دول آسيا الوسطى في العقدين الأخيرين إلى توسيع نطاق علاقاتها الخارجية. وأشادت واشنطن في الأعوام الأخيرة بتعاون كازاخستان معها، على رغم أنها الشريك الاستراتيجي لروسيا. ولا يستخف الخبراء بمشروع افتتاح مركز ترانزيت لحلف الناتو في هذا البلد. وثمة مغالاة وتسرع في استنتاج أن الوجود العسكري الأميركي في قيرغيزيا انتهى. وقد تكون بيشكيك تسعى فحسب إلى رفع ثمن علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي والولاياتالمتحدة. * باحث في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، عن موقع «راشا بيوند ذي هيدلاينز» الروسي، 27/6/2013، إعداد علي شرف الدين