تختلف القراءات في شأن الجولة الأفريقية للرئيس الأميركي باراك أوباما بمحطاتها الثلاث، في غرب القارة وجنوبها وشرقها، أي في السنغال وأفريقيا الجنوبية وتنزانيا تحديداً، بين مَنْ يُدرجها في إطار رؤية ثابتة تسعى إلى رفع مستوى التواصل مع هذه القارة، ومَنْ يعتبرها خطوة عرضية، إن لم تكن استعراضية. يذكر هنا أن هذه الجولة هي الرحلة الأولى المتعددة الوجهة للرئيس الأميركي إلى أفريقيا، وهي إذ تأتي في سنته الخامسة، أي في الولاية الثانية من عهده، تأتي في نظر بعضهم متأخرة بالمقارنة مع التوقعات، أو على الأقل الآمال التي عقدها بعضهم، بأن يعمد أوباما، وهو الرئيس الأميركي الأول من أصول أفريقية، إلى رفع مستوى التفاعل مع القارة. فأوباما، والذي كان زار وطن أبيه كينيا قبل وصوله إلى منصب الرئاسة، وسطر إثر تلك الزيارة كتاباً يكشف عن حسّ مرهف لحالة الإنسان الأفريقي الساعي إلى النهوض رغم الأعباء المتراكمة من القيود الاجتماعية المزمنة وتركة الاستعمار والفساد، اقتصرت ولايته الأولى على زيارة خاطفة لغانا لم تتعدَ الشكليات في تفاصيلها ولم تُنتج منها أي متابعة تذكر. ويدرج فريق عمل الرئيس زيارته للقاهرة مطلع عهده في إطار اهتمامه الأفريقي، في ما يبدو محاولة إثراء تعويضي من دون صدقية لسجل أفريقي يفتقد المادة الفعلية. والمفارقة الفعلية هنا هي بين سجل كل من الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما والرئيس السابق جورج دبليو بوش في التواصل والتفاعل مع القارة الأفريقية، رغم المعطيات الشكلية التي تتوقع علاقة أكثر اتساعاً وعمقاً للرئيس الحالي مع القارة التي تعود جذوره إليها، والتي أبدى فيها العديدون حماسة فائقة لانتخابه رئيساً للولايات المتحدة، في مقابل التصوير السائد للرئيس السابق بالانقطاع عن الشؤون الدولية. فالرئيس بوش قام بجولتين في القارة الأفريقية، أي بجولة لكل من ولايتي عهده، شملت في مجموعها عشر دول جنوب الصحراء الكبرى، إلا أنه في ما يتعدى الصورة، أسس لاهتمام مضاعف بأفريقيا على أكثر من صعيد، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وحضوره التوقيع على اتفاق «تحدي الألفية» في تنزانيا عام 2008 جاء تتويجاً لهذا الاندفاع. والزخم الذي اجتهد طاقم الرئيس السابق جورج دبليو بوش للمحافظة عليه جاء بطبيعة الحال في إطار متابعة أميركية لصون المصالح في أكثر من موقع عالمي. حصل هذا إزاء التبدل الطارئ في موازين القوى الاقتصادية وما يستتبعه من تأثير على النفوذ، مع البروز التدريجي للصين كمنافس فعلي عالمي للولايات المتحدة على أكثر من صعيد. وكانت الصين جسدت رغبتها العملية في تكريس توسع دائرة حضورها الاقتصادي في أفريقيا بعقد مؤتمر قمة أفريقي- صيني عام 2005 في بكين حضرته مجموعة كبيرة من رؤساء الدول الأفريقية. والاندفاع المقابل الذي أولته حكومة بوش لأفريقيا كان يهدف تحديداً إلى إبراز الفارق النوعي في طبيعة التواصل الأميركي والصيني مع أفريقيا بما يحبذ العلاقات الثنائية بين دول القارة السمراء والولاياتالمتحدة، وذلك على أساس توسيع دائرة الاهتمامات الأميركية بالشؤون الأفريقية. فعلى هذا الأساس، وفي ما يتعدى الأبعاد الاقتصادية، قادت الولاياتالمتحدة يومها حملة واسعة تهدف لتحسين الأوضاع الصحية للإنسان الأفريقي، لا سيما من خلال التصدي وقائياً وعلاجياً لوباء الأيدز، وأعادت هيكلة منظومتها العسكرية الدولية لإعطاء القارة منزلة جديدة تعزز العلاقات مع دولها على أساس الثنائية، في إطار «أفريكوم»، أي القيادة الموحدة للقوات الأميركية للقارة الأفريقية، بعدما كانت هذه المهمات من مسؤولية الفرع الأوروبي. وإذا كان الزخم الذي أبدته حكومة بوش تراجع، فإن أوساط أوباما تشير إلى التأثير السلبي المنهك للأزمة الاقتصادية التي اقتضت ما يقارب الانكفاء الأميركي على أكثر من صعيد، وأصبح من الممكن اليوم تجاوزها. وتشدد كذلك على أن تقلص الخطوات الفعلية لم يكن ناتجاً من تراجع الاهتمام، بل إن أوباما ثابر على مبادرات، وإن متواضعة نسبياً، مثل دعوة القيادات الأفريقية الواعدة في حقول مختلفة إلى البيت الأبيض، إلا أنها تندرج في إطار تصور بعيد المدى لرغبة في تعامل من نوع جديد مع القارة الأفريقية قائم على الندية والتوافق في المصالح. وأوباما، بحساسيته وقدراته الخطابية، من شأنه أن يعيد الحرارة إلى العلاقة مع القارة الأفريقية، مستمداً من البعد الإنساني المتمثل في زيارتيه المشحونتين بالرمزية لكل من جزيرة تصدير الرقيق الأفريقي إلى العالم الجديد، في السنغال، والسجن الذي قبع فيه نيلسون مانديلا الأعوام الطويلة في أفريقيا الجنوبية، الأساس الصالح للارتقاء بالعلاقة مع الأفارقة إلى ما يتعدى التنافس على النفوذ مع الصين، على رغم أن هذا التنافس هو في مقدم دوافع الجولة ولتعزيز العلاقات الأميركية- الأفريقية. لا شك على الإطلاق، لا في الرؤية التي يلتزمها أوباما للقارة الأفريقية، والقائمة على الرغبة في تقدمها إلى المصاف الأول عالمياً، ولا في قدرته على التعبير الصادق عن هذه الرؤية. لكن السؤال هو عن نيته ترجمة هذه الرغبة خطةَ عمل تلزم الولاياتالمتحدة، وسط أجواء تقشف تفرض على الرئيس مواجهات سياسية مستمرة لضمان تمرير البنود الأساسية في برنامجه السياسي الداخلي. بل إن خصوم الرئيس في الداخل، إذ يشككون بجدوى هذا الطرح، أي افتراض أن ثمة إشكالية هنا تستوجب النظر والفصل فيها، يشيرون إلى الفائدة السياسية التي يجنيها الرئيس من خلال إثارة هذا الشأن اليوم، وهو الغارق في سلسلة فضائح، من اتهام بالتضليل في موضوع بنغازي إلى التضييق الضريبي على الخصوم وصولاً إلى الرقابة المشبوهة لمراسلات المواطنين على الإنترنت. ولكن، حتى من دون افتراض مجرد التوظيف السياسي للاندفاع المتجدد لأوباما باتجاه أفريقيا، فإن مسعاه، في ما يتعدى الرمزية، يبقى محدود الآفاق.