يمكن وبكثير من الجرأة في التحليل من دون تجرؤٍ لا معنى له على الحقائق المجردة والوقائع الماثلة، اعتبار أحداث بنغازي الدموية السبت 8 حزيران (يونيو) 2013 التي عُرفت بأحداث «السبت الأسود»، نقطة تحول مفصلية في مسار الصراع الدموي الذي بدأ في ليبيا مساء الثلثاء 15 شباط (فبراير) 2011، وانتهت محطته الأولى بمقتل معمر القذافي صبيحة الخميس 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 ليبدأ مسارٌ جديد في سيرورة الصراع على السلطة بين أطرافٍ متعددة تختلف جذرياً وتتنازع وجودياً، لكنها تتفق في ارتهانها، عن معرفة أو عن جهل، لمشاريع وأجندات أطراف خارجية تتصارع على «الحَمَل» الليبي الهزيل، لا لتتقاسمه بل ليفوز بعضها به على حساب بعض آخر، وهو ما يجعل الصراع يشتد والنهاية تبتعد. تلك الأطراف الداخلية التي تعيش حال استقطاب شديدة انعكست على ليبيا وطناً وشعباً وشبه دولة، هي أطراف بعضها موصوف معروف، وهو المتمظهر في الأحزاب والكيانات السياسية، وأشهرها تحالف القوى الوطنية المحسوب على الخط الوطني المعتدل الحداثي الموصوف من خصومه أو بالأحرى الموصوم بالعلمانية من باب تكفيره وتحقيره وتحريض المواطنين ضده، ثم أطياف الإسلام السياسي وأشهرها جماعة «الإخوان المسلمين» الهادئة مظهراً الشرسة العنيفة جوهراً وحقيقة، والتي تبدو في خصام مع القوى السلفية بأطيافها المتعددة، لكنها تلعب دور العراب لها جميعاً في مواجهة الفكرة الوطنية المتعارضة مع أسطورة عولمة الدولة الدينية التي ليس لها صدقية على أرض الواقع. وهذه الأطراف الموصوفة المعلنة التي تتصارع سياسياً صراعاً يتجاوز الإقصاء إلى الإلغاء، وينتقل من كسر العزم إلى كسر العظم، هي على أرض الواقع الأضعف تأثيراً من حيث موازين القوة الغاشمة والقدرة على الفعل، في ظل حقيقة أن ساحات الصراعات المتمثلة في المؤسسات الرسمية المنتخبة والمختارة مخترقة ومنتهكة من الطرف الآخر الغامض المجهول إلى حد ما، والمتمظهر في توصيفات وتصنيفات كتائب الثوار واتحادات الثوار واللجان الأمنية والدروع، وهي، على رغم اختلافاتها وتناقضاتها، تتفق في لا شرعية الوجود وفاعلية التأثير السلبي بالطبع في الدولة والمجتمع، وإن كان يمكن وضع أنموذج توصيفي موحد لها وفق الاشتراطات والمحددات الآتية: 1- عدم قدرتها وانعدام استعدادها للتحول إلى كيانات سياسية علنية تتنافس سلمياً على السلطة، وفق الأعراف والقوانين والضوابط الحاكمة والمنظمة للعملية السياسية. 2- عدم قدرتها وعدم قبولها الإندماج في كيانات وتنظيمات أكبر وأكثر تنظيماً وانضباطاً، حتى مع قبول واقع وجودها الميليشيوي، ويعود هذا في جانب منه إلى عبثية تأسيسها ووجودها كجماعات مغانم تلبستها الروح العصابية في غياب الفكرة الوطنية. 3- فقدانها شبه التام للقيادات السياسية الوطنية الكاريزمية وللقدرات الثقافية والفكرية والإعلامية، وكذلك للبرامج وللخطاب المتماسك. 4- توزعها المناطقي والقبلي والعقائدي بما يفقدها تماماً الإطار الوطني الجامع. 5- غرقها الشديد في مستنقع الأموال والمصالح الفاسدة، على رغم ادعائها الكاذب للتطهرية والمناقبية، وتورطها المتزايد في الممارسات الإجرامية المُدانة وفق كل القوانين، واختراقها نتيجة نهمها إلى المال وحاجتها إليه من لصوص المال العام سابقاً وحالياً. 6- تمسكها جميعها، وإن بدرجات حدة ووقاحة متفاوتة بخطاب ديماغوجي تهريجي بائس يقوم على أكاذيب متعددة تتشظى عن أكذوبة كبرى عنوانها «نحن من أسقط نظام القذافي وحرر ليبيا»، وكأن الناتو لم يمر من سماء ليبيا ويمكث مئتي يوم أو كأن من ركب موجة الثورة هو من ثار فعلاً، وكأن النظام بقي متماسكاً كالصخر الأصم ولم يضربه بمعول الانشقاقات رجالات بيته أو سدنة معبده. 7- مفاجأتهم هم وعرابيهم ومن ثم اصطدامهم السريع بنتائج العملية السياسية الانتخابية في 7 - 7 - 2013 ولجوؤهم إلى أساليب الضغط والابتزاز والتهديد للمؤتمر الضعيف والحكومات الموقتة المتخاذلة، ونجاحهم في قلب النتائج وفرض أمر واقع أغراهم بالمزيد من الاندفاع. 8- تورط الكثيرين من قيادات وأعضاء الميليشيات والجماعات المسلحة في الأعمال المنافية للقانون. 9- احتفاظها بخطوط تماس متفق عليها منعاً لتصادمها، على رغم تفاوتها الشديد والواضح من حيث قوة العدد والعتاد والإمكانيات والدعم والتمويل والتأثير، وذلك يؤكد وجود نواظم خفية تضع ضوابط شديدة الدقة لعلاقاتها، ويثبت فرضية وجود العراب أو المايسترو. 10- سيطرة الكثير منها على مواقع ومرافق مدنية وعسكرية وأمنية في العاصمة، على رغم عدم انتمائها إليها رغبة في الحضور المؤثر قرب مراكز السلطة والمال والإدارة. 11- ضعف وهشاشة هياكلها وبناها الأمنية والقيادية، بما يجعل من السهل اختراقها وتوجيهها من الاستخبارات الدولية. 12- تبعية معظمها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لدول أجنبية تتعدد مداخل تأثيرها في الواقع الليبي وتتنوع أهدافها التي تتفق ضمناً في إدامة حال العبث والفوضى لأطول فترة ممكنة، لاستنزاف القوى المجتمعية وضرب الفكرة الوطنية وتشويه العقيدة الدينية، بجعلها موضع شبهة واختلاف وتنازع، تمهيداً للسيطرة البعيدة المدى على ليبيا، كما أن عدداً من اللاعبين العرب متفق ضمناً على إثبات فشل الثورات كأدوات تغيير جذرية للواقع نحو الأفضل. 13- ارتباط الكثير من الميليشيات والجماعات، خصوصاً المنتمية إلى الإسلام السياسي بأدوات إعلام وتواصل، تدافع عنها وتدعو لها وتقوم بعمليات غسيل للأدمغة لإظهارها بمظهر المخلص المخلّص، وإظهار خصومها، وهم الكثرة الشعبية، بمظهر المعادي للثورة الراغب في إعادة ليبيا إلى سلطة القذافي والمتآمر مع الهاربين بل الكافر إذا دعت الضرورة لاستخدام نبرة اتهام أعلى تؤدي إلى تسويغ القتل كما حدث قبل سبت بنغازي الأسود وبعده. ما تقدم كان توصيفاً وتحليلاً وتفكيكاً لعناصر وخصائص المشهد الميليشيوي العنفي كما هو قائمٌ ومتمظهر، لكن ثورة بنغازي الثانية على الاستبداد والفساد والاستعباد والتي لن تكون سحابة صيف وإن وقعت في الصيف وأمطرت دماءً ودموعاً وأشلاء وأحزاناً، فإن لها ما بعدها ويجب التأريخ لها وبها وترقب الآتي وهو الأعظم، فقد كسرت بنغازي مرةً أخرى، قد لا تكون الأخيرة، جدار الصمت، وأوقدت في الوجدان الليبي، حتى في غرب الوطن الأكثر تماهياً مع الصبر على الموت طلباً للحياة، شعلة غضبٍ لن تذوي. وقبل كل ذلك وبعده تتماهى مع خصائض الشخصية الليبية العنيدة التي ترفض التدخل الخارجي وإن قبلته اضطراراً فهي لا تتقبله استمراراً، وهذا ما أدركه اللاعبون الخارجيون، ولكن ليس بلا ثمن باهظ ثقيل دفعته بنغازي ضمير الوطن في سبتها الأسود الذي به سيشرق مستقبل ليبيا الأبيض. وتبقى حقيقةٌ كبرى يجب أن يدركها الليبيون وتحفزهم على تحدي الميليشيات وكسر شوكتها هي أنها تنظيمات تمتلك القوة الغاشمة عتاداً وأدوات موت وتخريب، لكنها لا تمتلك إطلاقاً التماسك المفترض توفره في من اختار طريق العنف بديلاً للسلطة عن السياسة، فمقدرات تلك الميليشيات كبيرة لكن قدرتها على استخدامها شديدة الهشاشة، فدرع ليبيا التي كانت تخيف وترهب هربت من مواجهة الناس في معسكر الكويفية ببنغازي خلال ساعات، صحيح أنها قتلت وقُتل منها أيضاً والدم في الحالين غالٍ وحرام، وأنها غادرت بما تيسر من عتادها، لكنها لم تعد موجودة في واقع بنغازي، ولن تعود. وهذا انتصار حقيقي كتبه الدم الغالي، لكن، منذ متى كان تاريخ الأوطان يُكتب بالحبر؟ * كاتب ليبي