أَنعَشَ فوز الفنان الفلسطيني الشاب محمد عساف بلقب «عرب آيدول» قلوب اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتمي إليهم محمد، فهو ينتمي الى أسرة فلسطينية لاجئة من منطقة يافا إلى قطاع غزة منذ العام 1948 وتحديداً إلى مخيم خان يونس. وأطرب بصوته وحنجرته التي صدحت ببعض الأغاني الوطنية جموع الفلسطينيين الذين شاركوه نجاحه، بما في ذلك وكالة الأونروا التي ترعرع محمد في مدارسها بقطاع غزة، وهو ما دفع مفوض الوكالة فيليبو غراندي للقول بعد لحظات من إعلان فوز محمد عساف «إن موسيقى محمد هي لغة عالمية، وهي تتحدث لنا جميعاً. كم هو رائع أن يقوم لاجئ فلسطيني من غزة بتوحيدنا معاً بهذه الكيفية». محمد عساف، سليلُ أجيالٍ فلسطينية نمت وترعرعت حزينة في عموم التجمعات الفلسطينية اللاجئة، وقد تفتّح وعيها على أفق ممدود ومثقل بمرارة الماضي وبالأحزان والهموم، تُحيط به الخرائب والمآسي وتُحاصره الأسئلة الصعبة، وقد هَرِمت بعضٌ من تلك الأجيال الأولى من أبناء النكبة وهي تحمل حصيلة مأسوية لعمر حزين كاد أن ينقضي من دون أن تحقق حلمها الموعود بالعودة إلى فلسطين، إلى يافا وحيفا وعكا وصفد واللد والرملة ... لكنها بالمقابل أضافت زرعاً جديداً من دفق الأجيال الجديدة التي أنجبتها، كان منهم الشاب الموهوب محمد عساف، وهي تحمل الراية وتسير بها بإرادة أقوى وأوسع مما حمله الجيل الأول والثاني والثالث من نكبة فلسطين، مدونين على جدران كل مخيم وتجمع فلسطيني في الداخل والشتات عبارات صارخة تقول «عذراً فيثاغورث فلسطين هي المعادلة الأصعب»، «عذراً نيوتن الأقصى وكنيسة القيامة مركز جاذبيتنا»، «عذراً ديكارت أنا فلسطيني إذاً أنا مُبدع وموجود». فوز الشاب محمد عساف بلقب «عرب آيدول» يُلخص في واحدة من تجلياته قصة شعبٍ نصفه تحت الاحتلال ونصفه الآخر في المنافي والشتات، قصة شعب ما زال حياً في فرادة تميّز بها الشعب الفلسطيني بالرغم من أهوال أكثر من 66 سنة من عمر النكبة الكبرى والنكبات التي حلت فوق رأسه، فرادةٍ أنتجت من بين عثرات اللجوء وحياة الشقاء خصوصاً في سنوات النكبة الأولى أجيالاً استثنائية، وقد حَفرت تلك الأجيال طريقها بأظافرها على الصخر الصلد والقاسي، وصنعت مستقبلاً جيداً ومرموقاً بالرغم من كل شيء، في مجتمع فلسطيني لم تَعد الأمية موجوده فيه بين الداخل والشتات تقريباً، فيما يتزاحم بين صفوفه حاملو الشهادات العليا من كل الاختصاصات، ليصبح شعب فلسطين اللاجئ والمجروح حتى الثمالة معلماً وملهماً لجموع كبيرة من أناس عالمنا العربي، حيث انطلقت البعثات التعليمية من فلسطين باتجاه العديد من البلدان العربية قبل النكبة ومنذ العام 1932، وتزايد منسوبها بعد النكبة. لقد أصبح اللاجئ الفلسطيني وبعد طول انكسار وشقاء وبؤس، في مصاف رواد الإنتلجنسيا العربية حاملاً رسالة العروبة في العلوم والثقافة والآداب الإنسانية، وقد أنجب عمالقة في علوم الطبيعة والعلوم التطبيقية، وعمالقة في الشعر العربي المعاصر، ومن قلب المعاناة من أرضٍ تحت الاحتلال ومن بقايا شعب بقي لاجئاً فوق أرضه عام 1948 وفي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ... كان آخرهم الشاب المتألق محمد عساف. إن بأس المسيرة الوطنية للشعب الفلسطيني، أنها لم تكن مسيرة كفاح مُسلحة بالبندقية فقط، فلو كانت كذلك لكانت بندقية لصوص وقاطعة طريق، ولكنها كانت وما زالت نُظُم شاعرٍ، وريشة فنان، وقلم كاتب، ومِبضع جراحن وإِبرة لفتاة وزوجة تخيط لزوجها وأولادها ثياباً من قماشة خام كيس طحين الأونروا في وقت كان أسود على الفلسطينيين. لقد فاز ابن الكوفية الفلسطينية، الذي استطاع من خلال مشاركته رفع راية فلسطين وإظهار معاناة شعبها. هذه هي المسيرة الوطنية الفلسطينية، التي تتناغم فيها كل مقومات الصمود والبقاء للشعب الفلسطيني. فالفنان محمد عساف حمل راية فلسطين وانطلق بها الآن مؤشراً إلى العالم بأن الفلسطينيين شعبٌ مُبدع، متميز، ديموقراطي تعددي، وجدير بالحياة الحرة والكريمة تحت شمس وطنه فلسطين. * كاتب فلسطيني