في الكتاب الذي صدر لي في القاهرة أخيراً عن المركز العربي للبحوث وعنوانه «الشعب على منصة التاريخ: تنظير مباشر لأحداث الثورة» مقالة لي نشرت بتاريخ 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، وعنوانها «اليوم التالي للثورة». وقلت في صدر المقالة «هناك إجماع بين الباحثين على أن يوم وقوع الثورة عادة ما يسجل باعتباره يمثل قطيعة تاريخية مهمة بين نظام سياسي قديم أسقطته الثورة ونظام سياسي جديد يندفع الثوار لإقامته على أنقاض النظام القديم، لتحقيق الأهداف العليا للثورة، وهي بالنسبة الى ثورة 25 يناير الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والحفاظ على الكرامة الإنسانية». غير أنني استدركت بعد ذلك حين قلت «جاء اليوم التالي للثورة والذي لا يقل أهمية عن يوم الثورة ذاته»! وعنيت بذلك أن الدراسة النقدية للمسار الذي سارت فيه ثورات الربيع العربي سواء في تونس ومصر وليبيا بالغة الأهمية، لأنها يمكن أن تشير لنا بأصابع واضحة عن المآل التاريخي لكل ثورة من هذه الثورات. وقد شهدنا في مصر، على وجه الخصوص، مرحلة انتقالية من النظام القديم إلى النظام الجديد متعثرة غاية التعثر، وزاخرة بالمصادمات الدامية سواء بين قوات الأمن والمتظاهرين الذين داوموا بلا توقف على حشد الحشود الجماهيرية، أو بين فئات سياسية متعارضة أبرزها الصراع بين الثوريين والليبراليين وأعضاء التيارات الإسلامية بتنوعاتها المختلفة «إخوانية» و «سلفية» و «جهادية». ولو ولينا النظر إلى تونس الخضراء لاكتشفنا، وإن كان مسار مرحلتها الانتقالية أكثر رشداً، أن الجماعات السلفية المتشددة أصبحت تمثل خطراً داهماً على الاستقرار السياسي بعد أن تعمدت الدخول في معارك دموية مع قوات الأمن، سقط فيها ضحايا ومصابون. وبلغ الهوس بزعيم السلفيين بأن يصرح «هذه مجرد معركة من المعارك ولكننا لم نهزم، وهناك معارك أخرى قادمة». ولعل هذا هو الذي دفع زعيم حزب النهضة الشيخ راشد الغنوشي إلى أن يصرح غاضباً بعد هذه الأحداث الدامية الأخيرة «هؤلاء السلفيون هم خوارج العصر»! أما ليبيا، بتكوين مجتمعها القبلي، فإنها أبعد ما تكون عن الاستقرار، خصوصاً بالمعارك الدامية التي خاضتها القبائل والميلشيات المسلحة ضد مؤسسات الدولة أو في مجال التناحر القبلي. وزاد من خطورة الوضع إعلان «برقة» الانفصال وتكوين ولاية مستقلة داخل الدولة الليبية. ولعل كل هذه الأحداث العنيفة التي وقعت في «اليوم التالي للثورة» هي التي دفعت بعديد من المراقبين العرب أو الأجانب الى إعادة النظر في مصطلح الثورة ذاته الذي أطلق على الهبات الثورية في كل من تونس ومصر وليبيا من ناحية، وعلى وصف الربيع العربي من ناحية أخرى! بالنسبة للشق الأول من هذا الحكم هناك مراجعة لوصف الانتفاضات الجماهيرية بالثورات، لأن أياً منها لم تكن لها قيادة معروفة ومحددة من ناحية، ولم يكن لها برنامج واضح الملامح من ناحية أخرى. التلقائية والعفوية كانتا هما عنوان المشهد، وبعد ذلك أسلوب المحاولة والخطأ، والذي أدى إلى التعثر الشديد في المسيرة الانتقالية لهذه البلاد التي وصفت الهبات الجماهيرية التي اندلعت فيها بالثورة. لكل ذلك لم يكن غريباً أن يصرح توماس فريدمان، وهو صحافي أميركي شهير ممن يتابعون العالم العربي بدقة، قائلاً: «آن أوان مراجعة وصف الثورة على ما حدث في تونس ومصر وليبيا، بعد سلسلة الإخفاقات الكبرى التي شهدتها هذه البلاد في المرحلة الانتقالية». غير أن أهم من تصريحات فريدمان البحث الرصين الذي نشره أستاذ الاستراتيجية الأميركي المعروف أنتوني كوردزمان والشهير بمعرفته الواسعة بالعالم العربي. نشر هذا البحث مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في 18 نيسان (أبريل) 2013 الذي كتبه كوردزمان وعنوانه: «أسباب عدم الاستقرار والاضطراب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: مسح تحليلي». والأطروحة الرئيسية التي ينطلق فيها كوردزمان في بحثه، والتي تحتاج من السياسيين والباحثين العرب على السواء إلى تأمل عميق، هي أن وصف «الربيع العربي» على الانتفاضات الجماهيرية التي حدثت في تونس ومصر وليبيا ليس دقيقاً، ومن الأفضل أن نتحدث، إن شئنا الدقة العلمية، على «عقد كامل» من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي ستسود هذه البلاد «الثورية» في السنين المقبلة. ومرد ذلك إلى أن هناك أسباباً كامنة في بنية هذه المجتمعات الثلاثة ستؤدي، أياً كان من يتولون السلطة فيها واتجاهاتهم السياسية، إلى نزع صفة الربيع والحديث عن عواصف خريفية حادة ستكون لها آثار سلبية في المنطقة. وقد قدم لأطروحته الرئيسة التي بنى عليها تحليلاته الإحصائية المفصلة بتقديم شرح لمجموعة من الحقائق البارزة. أولى هذه الحقائق أنه ليس هناك شرق أوسط واحد، لأن الأقطار الداخلة في نطاقه تختلف اختلافات جوهرية في كل مجال من مجالات الحياة. والحقيقة البارزة الثانية أن المشكلات الكبرى التي تقابل هذه البلاد، وعلى الأخص تونس ومصر وليبيا، تخرج عن سيطرة الحكومات وقدراتها على ضبطها. وهي معدلات النمو السكاني، والاختلاف في مجال الاستفادة الفعالة من الموارد الطبيعية الموجودة، إضافة إلى تأثير المواريث التاريخية. والحقيقة الثالثة أنه ليست هناك أسباب تاريخية واضحة تسمح بالتنبؤ بموجات الاضطراب التي قد تثور هنا وهناك. وأهم من ذلك كله أن الخبراء يختلفون اختلافات حادة حول تأثير ووزن المشكلات المختلفة التي تواجهها مختلف البلاد في المنطقة. ومما يزيد من صعوبة الدراسة والتحليل أن هناك اختلافات شديدة في البيانات وفجوات فيها، ما يجعل التنبؤ ليس سهلاً. وآخر مفردات الأطروحة التي يقدمها كوردزمان أن الاضطرابات الوطنية في هذه البلاد، بعيداً من لوم فصيل سياسي بعينه أو توجيه اللوم لسلطة ما، تشير إلى المشكلات التي تواجهها البلاد العربية والتي تحتاج إلى مواجهة متكاملة. كانت هذه هي الأطروحة الرئيسة التي قدمها كوردزمان في مقدمة دراسته، قبل أن يحلل بدقة معدلات النمو، ومعدلات الدخل الفردي، وترتيب الدول العربية على مقياس التنمية الإنسانية، والآثار المترتبة على الاعتماد الأميركي على بترول الشرق الأوسط. وبعد ذلك يتقدم كوردزمان إلى صلب بحثه لكي يحلل الأهمية الحاسمة للفروق القومية بين البلاد العربية، ونمط الإدراكات السائدة والإدراكات المتبادلة. بعبارة موجزة يدعونا كوردزمان، بعيداً من الاستعارات الجذابة عن الربيع العربي، أن نحلل بعمق الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكامنة في صميم بنية البلاد العربية والتي بالضرورة، كما يرى، ستؤدي إلى أن تتحول نسمات الربيع العربي إلى عواصف خريفية شديدة! وإذا ألقينا نظرة مقارنة على البلاد الثلاثة تونس ومصر وليبيا التي مرت بها ثورات الربيع العربي لأدركنا أن المرحلة الانتقالية تمر في كل منها بأزمة مختلفة بحسب طبيعة كل مجتمع. في المجتمع التونسي، رغم الرشد السياسي السائد لدى حزب النهضة وعدم استئثاره بالسلطة، هناك مخاطر التيارات السلفية. وفي مصر هناك مشكلة الهيمنة المطلقة على السلطة التي تمارسها جماعة «الإخوان المسلمين» والتي أدت إلى انقسام مجتمعي حاد بين الليبراليين والثوريين و «الإخوان المسلمين» و «السلفيين». وفي المجتمع الليبي هناك القبلية ومشكلاتها الجسيمة. نحتاج قبل أن نزيد جرعة الاحتفال بالربيع أن نمارس النقد الذاتي للخروج من الأزمة. * كاتب مصري