فجّر خطف الفتى المقدسي محمد أبو خضير (16 سنة) وإحراقه حياً على ايدي مجموعة من المستوطنين في الثاني من تموز (يوليو) الماضي، مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين في القدسالشرقيةالمحتلة والسلطات الإسرائيلية، كما فجر في الوقت ذاته خزان الصبر في صدور أهل المدينة المقدسة الذين يقاسون منذ عقود سياسات نهب البيوت والأراضي والإبعاد وغيرها من اشكال التمييز العنصري. واحتلت اسرائيل القدس عام 1967 مع بقية الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنها اتبعت سياسية خاصة تجاه المدينة المقدسة هدفت الى تحويلها الى مدينة يهودية بعد ان اعلنتها «عاصمتها الأبدية»، فأخذت تصادر المباني وتحيلها على مستوطنين، وتسن القوانين الرامية الى تجريد اكبر عدد ممكن من المقدسيين من بطاقات الهوية وغيرها. ووسعت اسرائيل حدود بلدية القدس عقب احتلالها من 6.5 كيلومتر مربع الى 72 كيلومتراً مربعاً، واستولت من اجل ذلك على مساحات واسعة من اراضي المدن المجاورة، مثل بيت لحم ورام الله وأريحا، وأقامت فيها 15 مستوطنة كبيرة يعيش فيها اكثر من 200 الف مستوطن. وبخلاف سكان الضفة وقطاع غزة، اعتبرت اسرائيل ابن القدس مقيماً وليس مواطناً في المدينة، وشرعت في مصادرة بطاقة هوية كل من يغيّر من اهلها، البالغ عددهم اليوم نحو 300 الف، عنوان اقامته. وتظهر الإحصاءات المتقاربة ان السلطات الإسرائيلية صادرت بطاقات 15 ألفاً من سكان القدس، وحولتهم الى لاجئين بعد ان اضطروا إلى الإقامة في مناطق أخرى للعمل وغيره. وسنت السلطات قوانين خاصة لمصادرة املاك كل من يغيب عن المدينة، وأحالت هذه الأملاك من أراضٍ وعقارات على المستوطنين. وقال خبير شؤون الاستيطان في القدس خليل التوفكجي ان اسرائيل اقامت 45 بؤرة استيطانية في البلدة القديمة من القدس يسكنها اليوم نحو ثلاثة آلاف مستوطن. واستولت السلطات على عقارات وأراضٍ في الأحياء المحيطة في البلدة القديمة ومنحتها للمستوطنين، مثل الشيخ جراح وراس العمود وسلوان وغيرها، لخلق واقع جديد في المدينة من الصعوبة نقلها الى الفلسطينيين في اي حل سياسي مقبل. وقال التوفكجي: «تعمل اسرائيل من خلال احتلال القدس على تحويلها من مدينة فلسطينية الى مدينة يهودية». واتبعت السلطات الإسرائيلية في العامين الأخيرين سياسة جديدة تجاه المسجد الأقصى، اذ بدأت تسمح للمتدينين اليهود بالدخول الى باحاته، اثناء فترات السياحة الأجنبية، لإقامة طقوس دينية فيها. ورأى الفلسطينيون في هذه السياسات بدء تقسيم فعلي للمسجد بين الفلسطينيين واليهود الذين يقولون انه مقام على انقاض «الهيكل» الزعوم. وقال مدير الأوقاف في القدس الشيخ عزام الخطيب: «عندما تسمح اسرائيل لليهود بالصلاة في باحات المسجد، فهذا يعني شيئاً واحداً هو تقسيم المسجد زمانياً بيننا وبينهم». وأضاف: «الخطة الحقيقية التي تسعى السلطات الإسرائيلية الى تنفيذها في المسجد الأقصى هي تقسيمه مكانياً بعد ان تنجح في تقسيمه زمانياً». وأدت السياسات الإسرائيلية المتلاحقة تجاه القدس الى تفجير مواجهات متواصلة في المدينة وضواحيها منذ مطلع تموز (يوليو) الماضي، في ما اطلق الإسرائيليون عليه اسم «الانتفاضة الصامتة» في القدس لأنها تتواصل وفق ما تتواصل عليه الانتفاضات، من دون ان تحمل اسم انتفاضة. وكتب احد المعقلين البارزين في الصحافة الإسرائيلية نداف شرغاي قبل أيام مقالاً جاء فيه: «القدس اصبحت تُقسم في هدوء من دون أن نفكر في ذلك». وأضاف: «القدس اصبحت تقسمها من جديد جغرافية الخوف، اذ صار عدد أقل من اليهود وعدد أقل من العرب يتجاوزون أحياءهم الى الجانب الآخر، وأخذت تقل الاختلاطات الكثيرة بين اليهود والعرب التي لم نكثر السماع عنها في الأيام المعتادة». ولجأت السلطات الإسرائيلية الى القمع لإسكات الاحتجاجات الفلسطينية في القدس، فقتلت عدداً من المتظاهرين، وأصابت العشرات واعتقلت المئات. وقال عضو المجلس الثوري لحركة «فتح»، الأمين العام للتجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة ديمتري دلياني: «مدينة القدس تعيش انتفاضة صامتة منذ استشهاد الفتى محمد ابو خضير على أيدي مستوطنين في جريمة اغتيال بشعة عّرت عن حقد عنصري متوغل في الذهنية الاستيطانية الإسرائيلية». وأضاف: «بعد استشهاد ابو خضير، شهدت القدس استشهاد محمد سنقرط ومحمد الأعرج ومحمد جعابيص، كما جرح في المواجهات مع الاحتلال نحو ألف شخص وتم اعتقال 900، من بينهم أكثر من 350 تم تحويلهم على المحاكم الإسرائيلية، إضافة الى الإجراءات القمعية الجماعية التي كثّفتها سلطات الاحتلال في المدينة، مثل فرض الغرامات والضرائب، ومنع المصلين من الوصول الى الأقصى، وزيادة وتيرة حرب الاحتلال على المؤسسات الوطنية في المدينة، وتشديد الخناق على الاقتصاد المقدسي». ورأى دلياني ان «الحراك الشعبي المقدسي الجاري أكد أن القدس العربية المحتلة لم تكن ولن تكون عاصمة لأحد غير الشعب الفلسطيني ودولته المستقلة». ونصبت اسرائيل اخيراً منطاداً لمراقبة التظاهرات والاحتجاجات الفلسطينية المتصاعدة في القدس. وقال الجيش الإسرائيلي على موقعه الإلكتروني انه نصب هذا المنطاد الشبيه بالمنطاد المنصوب فوق قطاع غزة بهدف «جمع المعلومات، ومتابعة النشاطات الإرهابية في الأوقات الحقيقية». ونقل الموقع عن قائد فرقة المناطيد قوله: «إن هذه المناطيد مزودة أدوات متابعة متقدمة تعمل على تزويد الجيش نقاطاً مهمة تتعلق بنشاطات العدو». واستخدم الجيش الإسرائيلي العام الماضي منطاداً لمراقبة المسجد الأقصى أيام الجمعة. لكن اهالي القدس يقولون ان الحل الأمني الجاري اتباعه معهم سيلاقي مصير نظيره في الضفة وغزة، اي انه سيؤدي الى تصعيد الصراع وليس وقفه او حله.