«منزل من دون باب» هكذا وصف أحد مديري أجهزة الاستخبارات الغربية دول العالم العربيّ. جاء هذا الوصف ضمن حديث عَرَضي حول النشاط المتصاعد والنفوذ المتنامي لأجهزة الاستخبارات الإيرانية والإسرائيلية في دول العالم العربيّ، وهو وصف لا يبتعد كثيراً عن قلب الحقيقة. فقد كانت هذه الملاحظة إشارة إلى النجاح الكبير الذي مكّن رئيس جهاز استخبارات الحرس الثوريّ الإيرانيّ (جهاز القدس) العميد قاسم سليماني، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (جهاز الموساد) الجنرال مير داغان من تأسيس نفوذ استخباري فعّال داخل معظم دول العالم العربي في مقابل انعدام شبه تامّ لأيّ نفوذ استخباري عربي مؤثِّر داخل إيران أو إسرائيل. فالقدرة الاستخبارية التي تمكَّنت إيران وإسرائيل من بنائها داخل دولنا ومجتمعاتنا تُعَدّ أمراً مُقلِقاً وخطراً لكلّ من يُدرِك أهمية وفداحة قيام دولة أجنبية بتأسيس ما يُسمَّى «رصيداً» استخبارياً داخل دولنا ومجتمعاتنا والنتائج الوخيمة المحتمَل تولدها عبر استخدام وتفعيل هذا «الرصيد» لزعزعة أمن واستقرار دولنا وتفتيت مجتمعاتنا، أو للتأثير في قدرة صُنّاع القرار فيها على اتخاذ قرارات، أو الامتناع عن اتخاذ قرارات محدَّدة وهو ما يُفقِد القيادات العربية استقلالها وحريتها في اتخاذ قرار لحماية المصالح الوطنية والقومية العليا. لم يَعُدْ هناك في عالم اليوم أهمية كبيرة للانتصارات العسكرية بالمعنى التقليديّ الذي كان سائداً. الانتصارات الاستخبارية هي الأهمّ والأجدى فهي التي عادة ما تمهد الطريق أمام تحقيق الانتصارات العسكرية، كما أنها أقل في كلفتها المادية والبشرية، لكونها أكثر ديمومة، ونتائجها وتأثيراتها أكثر ضماناً، ولا يمكن بسهولة إثبات تهمة التدخل أو الاعتداء، درس العراق يشير إلى أنّ الولاياتالمتحدة تمكنت، وخلال أيام معدودة، من إحراز انتصار عسكريّ حاسم. وبينما الولاياتالمتحدة تحتل العراق عسكرياً فإن إيران تسيطر على مقاليد البلاد استخبارياً وبكلفة مادية زهيدة ومن دون أية كلفة بشرية ولا سياسية. ومنذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وحتى اليوم قامت القيادات الإيرانية بالاستثمار الواسع والطويل المدى لبناء مؤسسات استخبارية فعالة. وكان من نتائج هذا «الاستثمار الاستخباري» أنْ تمكنت إيران من تفعيل طابور خامس يأتمر ويعمل بقرارات طهران. ومن خلال «الاستثمار الاستخباري» الناجح تمكنت إسرائيل من امتلاك قدرات «اليد الطُّولى» داخل بعض الدول العربية تمكنها من جمع المعلومات الدقيقة أو تنفيذ عمليات التصفيات الجسدية أو العمل العسكريّ الناجح لكل من يشكل تهديداً لأمن الدولة العبرية. ما لم ندركه حتى الآن كعرب حقيقة أن الاستثمار الاستخباري الناجح لا يحتاج بالضرورة إلى رصد موازنات طائلة، بل إلى التفكير والتخطيط والتنسيق، والحسابات الصحيحة ذات المدى الطويل، والتجرُّد من عنصر الولاءات الشخصية والمحسوبية في بناء مؤسسات وأجهزة الاستخبارات الخارجية. فعلى رغم تعدُّد اجهزة الاستخبارات في كل دولة عربية، وعلى رغم الموازنات المالية الكبيرة المخصصة لها، فإن عجز الأجهزة الاستخبارية العربية عن توفير الحماية للوطن والمواطن، أمسى ظاهرة خطرة لا يمكن تجاهلها. «المجتمع الاستخباريّ العربيّ» يقف اليوم في موضع الدفاع عن النفس ويخصص الجزء الكبير من طاقاته لمحاولة تقليل الخسائر من عمليات الاختراق الاستخباري المضاد، ولا يمتلك القدرات للقيام بعمليات اختراق مماثلة تعيد جزءاً من التوازن المطلوب، ولا يمتلك وجوداً مُوازياً في دول ومجتمعات من يُهدِّد أمننا واستقرارنا. السؤال الملِحّ اليوم: هل انعدام النشاط الاستخباريّ العربيّ يمكن أن يُعزى لعدم قدرة هذه الأجهزة على تأسيس الوجود؟ أم لعدم رغبتها في ذلك؟ في اعتقادي أن هذه التبريرات لا تتعدى كونها حُجّة واهية استُخدِمت لتغطية الحقيقة المؤلمة وهي عدم امتلاك هذه الأجهزة القدرة أو الكفاءة لحماية دولنا ومجتمعاتنا من النشاطات التدخلية الخارجية والنشاطات التخريبية. أجهزة الاستخبارات العربية لا تمتلك عيوناً ولا تمتلك آذاناً ولا تمتلك أصابع في أرض مَن استباح دولنا ومجتمعاتنا. العمل الاستخباريّ لم يَعُدْ عملاً ارتجالياً أو عشوائياً، بل تطوَّر ليكون فناّ وعِلماً قائماً بحدِّ ذاته. ومن الممكن القول: إنَّ أفضل وأبقى استثمار تقوم به أي دولة اليوم ليس التركيز على شراء المزيد من المعَدّات والأسلحة العسكرية الاستثمار المنطقيّ هو في تبنِّي عقلية واستراتيجية استخبارية جديدة تقوم على نظرة طويلة المدى وتأهيل جيل جديد لأجهزة الاستخبارات العربية الخارجية قائم على أسس الاحتراف، وإنشاء مؤسسات تدريب وتأهيل تتمتع بالإمكانات والمؤهِّلات المطلوبة. أخيراً، ليس من العدل أو الإنصاف التعميم هنا، فهناك بلا شك أجهزة استخبارات خارجية عربية تعمل تحت ظروف صعبة وبإمكانات محدودة وتقدم إنجازات ملموسة، ولكنها لا تعدو كونها استثناءات محدودة من قاعدة «الفشل الاستخباري العربي». * كاتب وباحث عراقي