غالباً ما كانت الإشكالية الكبرى في مسألة التعددية الثقافية تأتي من جانب علاقتها بالدولة، من خلال تقييم حدود تدخلات الدولة داخل الأقلية الإثنية أو القومية، أو من خلال مقدار الحقوق التي تُعطى للأقلية كجماعة لا على أسس فردية، وعلاقة الغالبية بالأقليات من خلال تمثل كل منهم في الدولة، ومقدار حضور الخصائص الثقافية للمجموعات الثقافية في الهوية الوطنية والجهاز الإداري الحكومي. يلخص «باتريك سافيدان» هذا النقاش في كتابه «الدولة والتعدد الثقافي» الذي طرح من خلاله هذا الجدل الممتد من بدايات تشكل الدولة القومية الحديثة، وحتى التطورات النظرية التي يطرحها منظرون أمثال راولز وكميلكا. يرى «سافيدان» أن طرح «التعددية الثقافية» ضروري ومهم على الصعيد العالمي، من خلال تأمل إحصائية بسيطة «نحصي اليوم 190 دولة – أمة ذات سيادة بمقابل 5000 مجموعة إثنية تتكلم كل واحدة لغتها الخاصة تنتمي إلى 600 مجموعة لغوية». هنا يظهر التعدد وكأنه أمر يفوق القدر، إذ من المستحيل خلق 5000 كيان مستقل على هيئة دول نقية عرقياً! ويبدو أن النقاء العرقي بهذا الشكل لم يخلق أبداً، يرى سافيدان أن العالم لا يحوي إلا دولتين منسجمتين ثقافياً هما إيسلندا وكوريا. الإشكال الأهم اليوم يطرح على صورة: إلى أي مدى يمكن لمنح الأقليات حقوقاً تراعي خصوصيتها الثقافية أن يؤدي إلى قمع الفرد داخل هذه الجماعة؟ ومن زاوية أخرى، ألن يؤدي التدخل لمصلحة الفرد – كما يطرح «ويل كميلكا» – إلى تفكك الجماعة في نهاية المطاف وذوبانها في الغالبية السياسية/ الثقافية، ويمكن أن يطرح تساؤل فض وشائك: هل يمكن للدولة «الديموقراطية الليبرالية» أن تعطي لأقلية ما حقها بأن تقمع الفرد داخلها باعتبار فكرة «الفردانية» تضاد خصوصيات هذه الأقلية! هنا يؤكد «كميلكا» وجوب التدخل لحماية الفرد، لكنه يفرق بين مستويين: القوميات الموجودة مع نشأة الدولة، والإثنيات التي تكونت بسبب الهجرة إلى الدولة لاحقاً، ويفترض كميلكا أن الأخيرة قبلت بالهوية الوطنية القائمة على الفردانية في الديموقراطيات الليبرالية بالضرورة. هذا النقاش يمتد على محاور أخرى: هل فكرة حياد الدولة – كما يطرحها «راولز» – ممكنة؟ وهنا يجادل باتريك سافيدان – وآخرون - بأن حياد الدولة مستحيل، لكن تبدو الدولة متماهية مع الهوية الوطنية التي أدمجت مكونات ثقافية منذ زمن بعيد، لذا لا تبدو أنها «ثقافية» للوهلة الأولى بل مجرد تمثلات إدارية إجرائية، ويستدل سافيدان هنا باختيار يوم الأحد كعطلة، التي يراها مكوناً ثقافياً كاثوليكياً أدمج في هوية فرنسا الوطنية. يمكن إضافة أمر آخر على هذا، كالرفض القانوني لفكرة «تعدد الزوجات» الذي قد لا يفهم إلا في إطار الثقافة المسيحية، شأنه شأن رفض زواج المثليين. لم يتم الاهتمام بمسألة التعددية الثقافة داخل الدولة الحديثة إلا خلال العقود القليلة الماضية، إذا اعتبرت مسألة حقوق الأقليات الثقافية أو طرح «التعددية الثقافية» داخل الدولة بالنسبة لجون ستيوارت ميل وجون لوك وهوبز وغيرهم ضد وحدة الدولة ومدعاة إلى انحلالها وتفككها، لأن الدولة تقوم على أسس نقاء ثقافي وقومي. وكان ينظر إلى الأقليات في الوقت ذاته على أنها بقايا شعوب مهزومة وأمم متوحشة، وبالتالي من يريد أن يعترف بثقافات متخلفة! وأن إدماجها بالذات قد يؤثر على الثقافة الغالبة المتفوقة ويسبب انهيارها. تمت إعادة تقويم رؤية المنظرين الليبراليين الأوائل لنقاء الدولة وعلاقته بقوتها، ومدى تأثير التعددية الثقافية داخل الدولة الحديثة «الدولة/ الأمة» على تماسكها، ويرى الكثير من المنظرين اليوم بأن القبول بالتعددية الثقافية في إطار ديموقراطية لم يؤدِ إلى الانحلال والتفكك الذي طرحه أولئك، بل على العكس، هناك من يطرح أن التعدد الثقافي مرادف للتطور كالجدل الأميركي باعتبار الأميركيين «أمة من المهاجرين»، لكن إلى أي مدى يسمح لهؤلاء المهاجرين أن يتمثلوا ثقافتهم بشكل كامل؟ هنا تأتي ثنائية الاندماج في الهوية الوطنية أو الانكفاء في هويات قومية وإثنية أصغر. ويظهر الجدال في الولاياتالمتحدة في تبني اللغة الإسبانية كلغة أولى قبل الإنكليزية في الولايات التي يغلب على سكانها تحدث الإسبانية. فتح النقاش حول التعددية الثقافية خلال العقود الماضية من بوابة علاقتها بالعدالة، وكيف يمكن تحقيق الحد الأعلى من عدالة الدولة بالنسبة للأقليات التي لم تندمج بشكل كامل داخل الهوية الوطنية التي هي بالضرورة تجلٍ من تجليات ثقافة الغالبية، كما أسلفت. يطفو على السطح الحديث عن التعددية الثقافية في العالم العربي، من بوابة الحديث عن الطائفية، لا من خلال بحث الحد الأقصى من العدالة للأقليات، بل من خلال البحث عن الحد الأدنى من العدالة للجميع، بعد انهيار الأنظمة الجمهورية العائلية (صدام حسين/ الأسد) التي احتكرت الدولة لمصلحتها. وتفجر هويات ما قبل الدولة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وانهيار الدولة في سورية، ما جعل مفكراً بوزن «جورج قرم» يرى أن الأمر أشبه بالطبيعي من خلال تأكيده على انفجار هويات ما قبل الدولة كالهوية الطائفية كنتيجة طبيعية لفشل الدولة القومية. لكن التجربة القومية التي فشلت هي تجربة الأنظمة العسكرية الاستبدادية التي استخدمت القومية كآيديولوجيا شمولية، على أمل أن تنتج المزاوجة بين القومية والديموقراطية ودولة المواطنين، كما يطرحها برهان غليون وعزمي بشارة وآخرون تجربة مختلفة وتفتح آفاقاً جديدة للفكر القومي العربي بعيداً من ذلك الإرث الدموي المستبد. * كاتب سعودي. [email protected]