تثبت الدراسات التاريخية والفكرية المعاصرة بعدم دقة مصطلح «الغزو الثقافي» علمياً بالمعنى والبناء المعرفي، كونه يزيد الأمر صعوبة عندما يخلق أوهاماً أيديولوجية من شأنها الإشارة إلى أن هناك غازياً ومغزواً بالمفهوم التاريخي المتعارف عليه، وبالتالي فإن ذلك من شأنه أن يمثل بنيتين غير متلاحمتين ولا تقوم العلاقات الأساسية بينهما، في حين لو تم استبدال هذا المصطلح بمصطلح آخر مثل «الهيمنة الثقافية»، حيث يشير مفهومه العميق ويركز على أن الخارج يدخل إلى الداخل باسم الداخل نفسه، فمثلاً عندما دخل نابليون إلى مصر قدم نفسه لشعبها بوصفه «الشيخ» نابليون الذي أتى ليحرر المصريين من المماليك، وأنه يحترم الإسلام والقرآن وأهله، فلبس لباسهم ولم يحاول أن يظهر لهم وكأنه أتى غازياً حتى ظهر في نهاية الأمر بوصفه جزءاً من البنية الداخلية للمجتمع المصري. هذا الأمر يقودني في الواقع إلى ضرورة توضيح العلاقة بين العلم ومنجزاته الحضارية، فالعلم كما هو معروف يعتبر سلاحاً ذا حدين، وكما أن له فضلاً على تقدم البشرية والحضارة الحديثة والمعاصرة وله أثره الواضح على القيم والأخلاق عامة والحرية على وجه الخصوص، فإن للعلم أيضاً بعض الآثار الجانبية، خصوصاً عندما يحاول بعض تجار السياسة والحروب استثماره وتوظيفه لتشجيع الصناعات التي تفتك بالبشرية. يوجد في العالم العربي تحديداً الكثير من الفئات التي لا تزال تنظر إلى الدين الإسلامي نظرة ضيقة متحجرة فتظن بأن أساس العلم الحديث وتطوره الذي ازدهر في الغرب، وقامت على أساسه الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة قد باعدت بشكل رئيسي بينها وبين الدين، لذلك فهي تستوجب الهجوم عليها كونها ركزت على التقدم العلمي الذي يمثل من وجهة نظر تلك الفئات المتطرفة فساداً للأخلاق وهدماً للبشرية، في المقابل هناك فئات أخرى تنظر إلى العلم وتطبيقاته المختلفة في شتى مجالاتها كفكر مستقل وحرٍ يمثل التعاطف ويدعو إلى القضاء على الخرافات والأساطير التي لا تزال تشكل أخلاق وسلوكيات الكثير من أبناء المجتمع العربي بوجه عام، خصوصاً في عاداتهم وأعرافهم، ولكن من غير المنطقي أن نجحف بحق أي عالم أخلص إخلاصاً لا حد له وأسهم في تغير وجه البشرية بحيث تغيرت معها نظرتنا للكون والحياة، فلا يمكن أن نسمح للبعض بأن يتهم العلماء الذين اخترعوا وأبدعوا، مثلاً وسائل عدة في علوم الطب والهندسة وغيرها، من أجل إيقاف الزحف البشري الهائل وزيادة أعداد السكان، خصوصاً في الدول الفقيرة، بحجة أن هذه الاختراعات قد قضت على الأخلاق وكانت هي السبب الرئيسي في إخفاء العلاقات المحرمة وغير المشروعة بين الجنسين، كما لا يمكن أن نعتبر أن جهاز «التلفاز وملحقاته»، الذي أصبح الإعلام الفضائي المرئي فيه أبرز شاهد على مدى التقدم التكنولوجي المعاصر، أقول لا يمكن أن نعتبره اختراعاً من الشيطان الرجيم «والعياذ بالله» لمجرد أنه قد يبث برنامجاً أو فيلماً يضرب من خلاله عرض الحائط بالقيم الأخلاقية قبل أن نعمل على توجيه هذا الإعلام المفتوح – قدر الإمكان - إلى مجالات تؤدي إلى نفع الإنسانية وليس فقط إلى الضرر بها والعبث بقيمها! ينبغي لنا أن نضع في اعتبارنا بأنه مهما وجدت أضرار جانبية للتقدم العلمي والحضاري السريع فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن نستغني عن كل ما هو جديد من الاختراعات الحديثة، في الوقت نفسه الذي قد يصاحب هذا التقدم العلمي ظهور لاتجاهات من القيم الأخلاقية التي لم تكن معهودة من قبل الأمر الذي يتطلب من الأسرة العربية ضرورة التنبه لمثل هذه الأمور ومعالجتها بطريقة حضارية عصرية بحيث يتكيف كل أفراد الأسرة الواحدة معها ضمن الثوابت والأخلاقيات الإسلامية، وبشرط أن نحاول دائماً طلب الحضارة بمختلف مجالاتها قبل أن نطلب المدنية. لعل السؤال الذي يحير الكثير من المفكرين والعلماء والباحثين يتمحور حول مدى الاتفاق أو الاختلاف بين التقدم العلمي من ناحية والأخلاق الإنسانية من ناحية أخرى؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نؤمن أولاً بفكرة أن من يقودنا دائماَ نحو التخلف والانهيار الفكري يتمثل في محاولة سيطرة أنصار الجمود والانغلاق العقلي على المجتمعات العربية وهجومهم المستمر على التقدم العلمي والتكنولوجي القائم في الغرب على وجه التحديد، واعتبار هيمنتهم الثقافية على العالم بمثابة «غزو ثقافي جديد»! في حين أنهم يعلمون تماماً بأن كتب التراث التي يحاولون إرجاعنا لها دائماً ونحن نعيش تحديات هذا القرن لا يمكن أن نجد في معظمها نظرية علمية واحدة يمكن أن تؤدي إلى أي تطبيق من التطبيقات التكنولوجية التي أصبحنا نستفيد منها في حياتنا اليومية المعاشة. لذلك فإنهم كانوا ولا يزالون يمثلون بعضاً من الكسالى – النفعيين الذين لا هم لهم سوى السيطرة على المجتمعات العربية وجرهم عنوة نحو التراث فقط وإسقاطه على الحاضر من دون النظر والاهتمام بالمستقبل لمجرد أنه تراث! في الوقت نفسه الذي لم يكلفوا أنفسهم فيه عناء إتقان لغة أجنبية واحدة – مثلاً - من أجل أن يتمكنوا عن طريقها من التعرف على حقيقة الأفكار العلمية التي يشنون عليها هجومهم من دون أن يعرفوا أو يفهموا مغزاها وجوهرها، فتصبح حالتهم أشبه بحالة «دون كيشوت» الذي حارب طواحين الهواء. إن العقل البشري لا وصاية عليه من أحد، فالوصاية لا تكون إلا على الطفل أو المجنون، وهذا ما يجب أن يدركه كل من يحاول الوقوف أمام تقدم الحضارة الإنسانية المعاصرة والتطور العلمي والتقني من دون أن يحترمهما أو يحاول التقرب من أجل التعرف على فكر الآخرين وإبداعاتهم ومخترعاتهم العلمية، ويسلك بدلاً من ذلك سلوك النعامة التي تخشى دائماً من مواجهة الواقع، وتبحث لها عن بدائل من تحت التراب! إن أوجه الاتفاق بين التقدم العلمي والأخلاق الإنسانية في تاريخنا المعاصر يحتم علينا ضرورة التكيف المحصن بالثوابت الإسلامية الصحيحة مع الهيمنة الثقافية للعولمة، بشرط ألا نقبل لأنفسنا بالتبعية والعبودية على حساب حرياتنا الشخصية وتحررنا الذاتي والعقلي. * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر. [email protected]